أي سرّ في السيمفونية التاسعة لبيتهوفن حتى يقرّر الاتحاد الأوروبي اعتمادَها نشيداً وطنياً للاتحاد منذ تأسيسه في عام 1974؟
وكيف تمّ التوافق على أن تُعزف موسيقى هذا النشيد الوطني بقيادة العازف الشهير هيربرت فون كارادان الذي كان عضواً في الحزب النازي أيام هتلر، في ثلاثينيات القرن الماضي، رغم التوجه السياسي الذي يمثله الاتحاد الأوروبي؟
ولماذا كان كلٌّ مِن الزعيم النازي أدولف هتلر وخصمه الزعيم السوفييتي جوزف ستالين يحرصان على أن تُعزف السيمفونية التاسعة أثناءَ الاحتفال بذكرى ميلادهما في كل مدينة وقرية من بلديهما؟
ولماذا طلب ماوتسي تونغ نفسُه عزفَها في مقدمة الاحتفال بالذكرى العاشرة للثورة التي قام بها في الصين عام 1949؟
ثم لماذا اتخذها النظام العنصري المتطرف في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي الحالية) نشيداً وطنياً؟
ليس المعجبون بهذه السيمفونية هم مِن المتطرفين فقط، بل اعتمدها أيضاً معتدلون معاصرون مِن أمثال رئيس «حزب العمال» البريطاني الحالي السير كيرستارمر، وحتى الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون.
هناك أسرار في هذه السيمفونية تَصعُب ترجمتُها إلى كلمات. ولعل أهم سرّ فيها هو أن مؤلفها بيتهوفن لم يتمكّن من الاستماع إليها، فعندما انتهى من كتابة لحنها كان قد أصيب بالصمم.. بل إن اللحن كله تمّت صياغته وهو أصمّ!
كان بيتهوفن مِن أنصار الثورة الفرنسية، ومن المعجبين بشعاراتها الإنسانية حول الحرية والعدالة والمساواة بين الناس.. لكنه كان مستاءً من سياسة المقاصل وقطع الرؤوس التي سلكها متطرفون باسم الثورة. وقد وهب سيمفونيته الثالثة إلى نابليون إعجاباً به وباعتباره وريثَ الثورة وحاملَ لوائها.. لكن عندما بدأ نابليون اجتياح أوروبا، تراجع بيتهوفن عن الإعجاب به وسحب إهداءَه له في عام 1804، متهماً إياه بالتخلي عن مبادئ الثورة الفرنسية وشعاراتها الإنسانية.
تغيّر الموقف وبقيَّ اللحن.. مات نابليون في المنفى واستمرت سيمفونية بيتهوفن خالدةً حتى اليوم.
حاول نابليون توحيد أوروبا بالقوة العسكرية، ففشل في ذلك.. أما بيتهوفن فنجح في توحيدها من خلال السيمفونية التاسعة التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي نشيداً وطنياً له.
في السابع من شهر مايو عام 1824 اعتلى بيتهوفن منصةَ أحد مسارح فيينا العريقة ليقدّم السيمفونية. وكان قد فقد السمعَ كلياً مما اضطره إلى التغيّب عن الظهور طوال اثني عشر عاماً. وبعد تقديم السيمفونية اهتزت جدران المسرح بالتصفيق والهتاف إعجاباً. لكن بيتهوفن لم يسمع شيئاً من ذلك. قرأ الإعجاب في الوجوه وفي حركات التقدير الفردية والجماعية التي لم يحظَ بها موسيقارٌ قبله. حتى إنه قيل لو أن بيتهوفن لم يكتب سوى السيمفونية التاسعة لكان ذلك كافياً لاعتلاء عرش الموسيقى في العالم. فهذه السيمفونية فيها من معاني الحرية والقوة والفرح والأخوّة ما يجعلها نسيج وحدها بين كل السيمفونيات الأخرى. ولذا تلاقى على الإعجاب بها اليساريون واليمينيون والشيوعيون والرأسماليون، الأحرار والمستعبَدون.. كلٌّ على طريقته الخاصة. ذلك أنها في بُعدها الإنساني الراقي دخلت كلَّ القلوب وحرّكت كلَّ المشاعر الإنسانية. ولعل أول مَن تأثر بلغتها هو بيتهوفن نفسه الذي عاش اللحن تصوّراً وكتابةً حتى مِن دون أن يسمعه!
ولذا ليس مستغرباً أن يتوقف بيتهوفن عن تأليف الموسيقى بعد هذه السيمفونية الخالدة التي تضمّنت خلاصةَ عبقريةِ موسيقارٍ لم يَجُد الزمان بمثله.. فقد كانت آخر ما كتبه، وأهم ما قدّمه للإنسانية.. ومنذ عام 1824 لا تزال السيمفونية التاسعة حتى اليوم تحتلّ الموقعَ المتقدمَ في عالم الموسيقى.
*كاتب لبناني