تحتاج المنطقة العربية- الشرق أوسطية بشدّة إلى الاستقرار والسلام. أولاً، لأن أزماتها طالت وأوضاعها تعفّنت بسبب تعطّل الحلول الدبلوماسية والسياسية، داخليةً أو خارجية.

وثانياً، لأن أوضاعها الاقتصادية- الاجتماعية أصبحت طاردة لجيل الشباب والكوادر المتخصصة الذين يعوّل عليهم لإنهاض بلادهم.

وثالثاً، لأن التدخلات الخارجية لم تقدم لها أي مشاريع تنموية، بل تراهن على التأزيم والاستثمار في البؤس للحصول على امتيازات إقليمية لن تساهم إلا في استمرار الصراعات بلا طائل. ورابعاً، لأن الأزمات المتداخلة فعلت فعلها في تمزيق النسائج السكانية وتلاشي التضامن المجتمعي وتفكيك أسس التعايش السلمي لمصلحة بروز العصبيات شتى. والأدهى، خامساً، لأن الاضطرابات الداخلية إما تحولت إلى حروب أهلية أو إلى أزمات مستعصية بفعل تفشي الميليشيات وجماعات التشدّد والإرهاب، ما يستتبع إضعاف الدولة ومؤسساتها خصوصاً الأمنية.

والأمثلة معروفة في هذا المجال، لا سيما في سوريا ولبنان واليمن، وإلى حد كبير في العراق رغم بطء الجهود المبذولة لإنهاض الدولة والتراجع النسبي للتوتّرات الأمنية. عدا هذه العوامل التي يمكن ربطها بأسباب داخلية أو ذاتية بحتة تكشّفت عن تعقيدات قديمة ومستجدّة، وعن أخطاء وقصور في الحكم والحوكمة، بقيت المسألة الفلسطينية تعتمل في عمق المشهد الإقليمي، من دون حلّ أو بداية حل. ورغم أنه كانت هناك «عملية سلام» بوشر بها إلا أنها أُدخلت على مدى ثلاثة عقود في متاهات تقلّب السياسات الأميركية والإسرائيلية، كما في دوامات التفاوض واللاتفاوض، وشكّل ذلك إشارةً إلى تلكؤ واستبعاد لمبدأ إزالة الاحتلال وإساءةً بالغة للفلسطينيين ولعموم العرب الذين تبنوا الخيار السلمي. وبعدما تعطّلت المفاوضات كلياً حلّت محلها صراعات بين الفلسطينيين أنفسهم، وخطط إسرائيل لإذكاء الانقسام، من جهة بإضعاف الطرف المعتدل الذي تمسّك بالحلّ السلمي والديبلوماسي بالتنسيق مع العالم العربي، ومن جهة أخرى بتسمين الطرف الرافض كل الحلول السلمية إلى أن فاجأها بهجوم السابع من أكتوبر ووفّر «فرصة» لأحزابها المتطرّفة.

والآن، بعد أحد عشر شهراً من الحرب، يتضح أكثر فأكثر أن احتلال قطاع غزّة والضفة الغربية هو ركيزة التفكير الإسرائيلي، تحديداً لدى أحزاب اليمين المتطرف في الحكومة، وهذا ما يتبدّى في الخطاب السياسي، كما في الشروط التعجيزية الرامية إلى إفشال أي وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.

وفيما تبرّر الحكومة عمليات الجيش في الضفة بأنها استباق للتهديد الذي تشكّله «المقاومة المسلحة» لـ «أمن إسرائيل»، إلا أن هجمات المستوطنين المتطرّفين على قرى وبلدات فلسطينية تشي بأن هناك أجندات يمكن اختصارها بالسعي إلى «تهجير» سكان الضفة وترحيلهم، وهذا ما يتحدّث عنه بعض الوزراء بكل وضوح.

هذه الحرب، التي يريدها متطرفو الحكومة الإسرائيلية أن تستمر بلا نهاية، فرضت كوارثها مباشرة على سكان فلسطينيي القطاع والضفة الذين لا يرون ضوءاً في نهاية النفق، كما سمّمت أجواء الدول المتاخمة، المأزومة أصلاً، من خلال ما سميت «حروب إسناد» لم تحقق أهدافها. لكنها انعكست أيضاً على الدول التي حافظت على استقرارها وازدهارها الداخليين، إذ شعرت بواجب التحرّك لوقف تلك الحرب التي لم تخطّط لها ولا كان لها دور في إشعالها، واستعدّت لتحمّل المسؤولية في مواجهة تداعياتها، بل إنها الوحيدة القادرة على منع مخطط «التهجير» لما لها من فاعلية دبلوماسية.

غير أن الأطراف التي أدارت الحرب وأوصلتها إلى آفاق مسدودة تتطلّع إلى الاستثمار في نتائجها، وليس لديها أي رؤى لسلام حقيقي أو لإعادة إعمار قطاع غزّة، ولا تبدو معنيّة باستعادة أهله مقوّمات حياة كريمة.

*محلل سياسي- لندن