بالنسبة لليبراليين مثلي، تبدو أوروبا في كثير من الأحيان مكاناً خلاباً ينطوي على دروس مفيدة لأميركا، ذلك أن أوروبا عرفت كيف تنعِّم الرأسمالية، فوفّرت شبكات أمان لمواطنيها وتجاوزت الولايات المتحدة من حيث الرفاهية. كما أن الأطفال الرضع الأوروبيين أقل عرضة للوفاة من أقرانهم في الولايات المتحدة، والولادة أقل خطورة في أوروبا منها في الولايات المتحدة، والأوروبيون يعيشون لفترة أطول.
وفضلاً عن ذلك، فإن الأوروبيين الشماليين يعملون ساعات أقل من الأميركيين -- حوالي 1400 أو 1500 ساعة فقط في السنة مقارنة بـ 1800 ساعة للأميركيين -- ويتمتعون عموماً بالرعاية الصحية الشاملة، ورعاية الأطفال المجانية أو المدعومة، ومدارس عامة قوية.
كما أن التعليم الجامعي غالباً ما يكون مجانياً أو غير مكلف. والناس يولون حقوق الإجهاض أهمية أكبر من تلك التي يولونها لحقوق حمل السلاح. وإذا كنت تعمل في مطعم «ماكدونالدز» في الدنمارك، فإنك ستتقاضى أكثر من 20 دولاراً في الساعة، بالإضافة إلى أنك ستحصل على إجازة مدفوعة الأجر لمدة ستة أسابيع، وإجازة أمومة لمدة عام، وخطة تقاعد.
غير أنه من الإنصاف أيضاً الإشارة إلى أن أوروبا تعاني اليوم مجموعة مشاكل، فالعام الماضي، حقق الاقتصاد الأميركي نمواً أسرع بـ 6 مرات مقارنة مع نمو الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، 2.5% مقابل 0.4%.
وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة تزخر بالنجاحات في مجال التكنولوجيا مثل «آبل» و«جوجل» و«ميتا»، في حين لا توجد شركة أوروبية واحدة ضمن قائمة أكبر 10 شركات تكنولوجية في العالم من حيث القيمة السوقية. وتُظهر إحدى قوائم «الشركات أحادية القرن» -- وهي الشركات الناشئة التي تزيد قيمتها على مليار دولار -- أن أصغر دولة أفريقية، وهي السيشيل، لديها من هذه الشركات ما لدى اليونان (شركتان)، وتقريبا ما لدى إيطاليا أو بلجيكا (ثلاث شركات).
وإذا كانت فرنسا تشتهر بـ «كرواسون» اللوز والعلامات التجارية الفاخرة ونمط عيش يعجب الكثيرين، فإنها كانت ستكون واحدة من أفقر الولايات من حيث نصيب الفرد، لو كانت ولاية أميركية، أي في مرتبة واحدة مع ولاية أركانسو.
وفي الأثناء، يبدو أن عدد سكان أوروبا قد بلغ أعلى مستوى له هذا العقد، ومن المتوقع أن ينخفض بشكل كبير لأول مرة منذ «الطاعون الأسود» الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر. ومن المرجح أن يستمر الانخفاض في عدد السكان وشيخوخة المجتمعات بطرق من شأنها أن تقلّل من نفوذ القارة.
وعسكرياً، تعتمد أوروبا الغربية على الولايات المتحدة ولا تستطيع مواجهة روسيا بمفردها. صحيح أن بولندا ودول البلطيق تبذل ما في وسعها، ولكن أوروبا لسوء الحظ ليس لديها اليوم قائد حقيقي. ألمانيا، التي كانت محركاً للمنطقة، أصبحت الآن توصف أحياناً برجل أوروبا المريض. ولهذا السبب، يزداد القلق من أن الحكومة الألمانية المتعثرة قد تخفّض دعمها لأوكرانيا.
وفي غضون ذلك، يرغب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قيادة الأوروبيين، ولكن لا أحد يريده أن يفعل ذلك. وقد حذّر ماكرون في أبريل الماضي في جامعة السوربون من أن «أوروبا يمكن أن تموت»، وهو واعٍ بالخطر ولكنه يفتقر إلى الحلفاء سواء في الداخل أو الخارج.
ومن الأسباب التي قد تزيد من اتساع الفجوات بين أوروبا وأميركا هو أن هذه الأخيرة تستثمر في عهد الرئيس جو بايدن في رقائق الكمبيوتر والبطاريات والإنترنت عالية السرعة، وفي الأثناء، يخصّص الاتحادُ الأوروبي قرابة ربع ميزانيته للزراعة والمناطق الريفية، ويدعم أحياناً الإنتاج الزائد.
والمحصلة هي تزايد القلق بشأن «أزمة التنافسية» في أوروبا. ففي اجتماع «اللجنة الثلاثية» الذي انعقد هذا الصيف في بروكسل، سمعتُ مراراً وتكراراً صيغاً متنوعة لفكرة أن «أميركا تبتكر» بينما «أوروبا تقنّن».
والواقع أن هناك أسباباً وحججاً لأهمية التقنين. وأعتقدُ أن أوروبا في العقود الأخيرة كانت أفضل من أميركا في حماية المستهلكين من الاحتكارات والمواد الكيميائية السامة، غير أنه ربما يجدر بالليبراليين مثلي أن يلقوا نظرة جادة على الأدلة التي تُظهر أن التقنين المفرط وضعف الحوكمة في أوروبا قد يقوّضان مستقبل القارة.
وللإنصاف، فإن المنتقدين يحوّلون أوروبا أحياناً إلى صور كاريكاتورية متجاهلين نقاط قوتها الهائلة. وبدلاً من أن تشجع على الكسل، فإن استثماراتها في رأس المال البشري مكّنت الناس من العمل: ذلك أن معدلات المشاركة في القوى العاملة أعلى في شمال أوروبا منها في الولايات المتحدة، وهذا يعزى جزئياً إلى حقيقة أن أوروبا تبلي بلاء أحسن بكثير في مجال رعاية الأطفال، مما يسهّل على الآباء والأمهات الاحتفاظ بوظائفهم.
وصحيح أيضاً أن الأزمات تؤدي أحياناً إلى تدفقات جديدة للحيوية. فقبل حوالي 15 عاماً، كانت اليونان تبدو في حالة ميؤوس منها تماماً. أما اليوم، فإنها باتت واحدة من أسرع الدول نمواً في أوروبا. وبعد أزمة اقتصادية في التسعينيات، تغيرت السويد وأضحت رائدة في الابتكار وريادة الأعمال، فالسويديون هم من جلبوا لنا «سبوتيفاي».
إنني أعشقُ أوروبا. وقد عشتُ في كل من بريطانيا وفرنسا في أوقات مختلفة وسافرتُ إلى كل مكان تقريباً في القارة. وبينما أكتب هذه السطور، أجدني أبتسم لذكرى سكن جامعي في جامعة أكسفورد كان يسمى «المبنى الجديد» – رغم أنه بُني في ثلاثينيات القرن الثامن عشر.
والحال أن أوروبا في حاجة إلى مستقبل حيوي على غرار ماضيها. وأخشى أنها إذا لم تتخلص من القوانين غير المجدية والمكلفة وتتبن الابتكار وتعزِّز أمنها القومي، فإنها قد لا تصبح نموذجاً لليبراليين في العالم بقدر ما ستصبح تحذيراً لهم.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»