تشهد السياسات الاستثمارية للصناديق السيادية الخليجية تغيرات مهمة في توجهاتها، وذلك لأسباب داخلية وخارجية تتعلق بالتغيرات التي شهدتها الاقتصادات الخليجية من جهة، والتطورات التي طالت مناطق الاستثمار العالمية والتي فرضت مثل هذه التغيرات، إلى جانب القناعات التي تولدت لدى إدارات الصناديق السيادية.
وفيما يتعلق بالتغيرات المحلية، فقد ميزت العقود الخمسة الماضية تفاوتات بين عائدات النفط التي تضاعفت أكثر من خمس مرات ووفرت عائدات ضخمة بما عرف «بالبترودولار» وبين الإمكانيات المتواضعة لقدرة الاقتصادات المحلية على امتصاص هذه العائدات الضخمة، مما نجم عنه البحث عن منافذ استثمارية خارج دول المجلس، فتأسس بالكويت أول صندوق سيادي في العالم، والذي حقق نجاحاً مشهوداً، وتم نسخه ليس في دول المنطقة فحسب، وإنما في الدول المتقدمة والناشئة، كالنرويج وسنغافورة والصين.
وعلى مدى خمسة عقود تنوعت الاقتصادات الخليجية، وبرزت قطاعات إنتاجية مهمة وتطور القطاع المالي والمصرفي بصورة لافتة، بل ودخلت دول المجلس بقوة في الصناعات الغذائية والإنتاج الزراعي، وذلك رغم شح مصادر المياه والظروف المناخية القاسية، وذلك بالإضافة إلى القطاع الصناعي، وبالتالي توفرت فرص ومنافذ استثمارية كبيرة غيرت من المشهد العام للاقتصاديات الخليجية.
ومع مرور الوقت أتيحت للصناديق السيادية المحلية إمكانيات استثمارية ترافقت مع تغيرات في نهجها الاستثماري لتبادر إلى ابتكار فرص جديدة ساهمت وتساهم بصورة متزايدة في زيادة معدلات النمو وتعميق التنوع الاقتصادي بعيداً عن النفط.
ويُلاحظ حالياً تعدد المشاريع، التي تساهم الصناديق السيادية الخليجية في تنفيذها في العديد من المجالات، بما فيها الطاقة المتجددة والقطاع المالي والعقاري والصناعات المتقدمة، بل وشمل ذلك بعض الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية، مما سيترك أثراً على مجمل التقدم الذي تحققه دول المجلس.
أما على المستوى الخارجي، فقد تراجع حجم الضمانات التي كانت تتمتع بها الاستثمارات الأجنبية في الدول الرئيسية المستقبلة لهذه الاستثمارات، إذ يلاحظ تزايد حالات التجميد والمصادرة لأسباب غير اقتصادية، إضافة إلى الأزمات المالية التي عصفت بين فترة وأخرى بهذه الاستثمارات، مما تطلب ضرورة إعادة النظر في السياسات الاستثمارية في مختلف دول العالم، وبالأخص دول مجلس التعاون بحكم حجم الثروات التي تتمتع بها، حيث تأتي ثلاثة من صناديقها السيادية ضمن أكبر ستة صناديق سيادية في العالم.
لذلك تطلبت الحكمة إعادة نسب التوزيع لاستثمارات القطاعين العام والخاص، وبالأخص الصناديق السيادية، إذ سارعت إداراتها لإعادة رسم خارطتها الاستثمارية من خلال زيادة نسبة الاستثمارات الداخلية، وهو ما أدى إلى تنفيذ الكثير من المشاريع وزيادة معدلات النمو والتنوع الاقتصادي وتوفير مئات الآلاف من فرص العمل والذي أدى بدوره إلى تخفيض معدلات البطالة.
ومع أن هذه التوجهات تتفاوت بين صندوق سيادي خليجي وآخر، فإن هناك توجهاً خليجياً عاماً نحو تعزيز الاستثمارات الداخلية لما لها من مردودات إيجابية كبيرة على التنمية للتحضير لفترة ما بعد النفط، وذلك إضافة إلى مسألة مهمة تتعلق بالضمانات، فالاستثمارات الداخلية مصونة من أية تهديدات غير اقتصادية أو مالية، فدول المجلس تعتبر من أفضل دول العالم في الفصل بين الضمانات الاستثمارية والسياسات التي قد تحاصر هذه الاستثمارات وتبث الخوف لدى المستثمرين.
وهنا لا بد من توضيح مسألة ضرورية، فالاستثمارات الخارجية مهمة للغاية، سواء في الغرب أو الشرق، وبالأخص في الاقتصادات الكبيرة، إلا أن إيجاد تناسب صحيح بين المكونين المحلي والخارجي هو المقصود هنا، ففي الأسواق الخارجية تتوفر فرص استثمارية مجدية جداً، كتلك الخاصة بالاستثمار في شركات التكنولوجيا المتقدمة والابتكارات والذكاء الاصطناعي، والتي حققت فيها بعض الدول، كالولايات المتحدة الأميركية والصين تقدماً كبيراً يمكن استغلال الفرص الناجمة عنه.
والحال أن دول مجلس التعاون الخليجي وصناديقها السيادية تنفذ حالياً توجهاً استثمارياً صحيحاً يتعلق بإعادة نسب توزيع استثماراتها بما يخدم سياساتها وتطلعاتها التنموية التي تعزز نموها واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي.
* خبير ومستشار اقتصادي