أثار انتباهي مؤخراً تصريح لأحد الرؤساء التنفيذيين لأكبر مؤسسة مصرفية أميركية، وهي «جي بي مورجان تشيس» التي يعمل فيها ما يزيد على 240 ألف موظف عبر العالم، وقد قال في ذلك التصريح، إن المدارس الأميركية تجعل مهمة المصرف صعبة للغاية في استقطاب الطلبة الخريجين المناسبين، وذلك بسبب عدم تأهيلهم وتدريبهم بالصورة الكافية لدخول سوق العمل.
وأضاف جايمي ديمون أن المدارس يقع عليها عبء تدريب وتأهيل الطلبة وهم في فترة الدراسة، ولا ينبغي إلقاء تلك المهمة على عاتق أصحاب الأعمال لسد الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل. وبصرف النظر عن المناقشات الحادة التي تلت ذلك التصريح، ما بين مؤيد ومهاجم، إلا أنه يشير إلى ثلاث قضايا رئيسية على قدر كبير من الأهمية.
القضية الأولى هي «عالمية» العلاقة المضطربة بين التعليم وسوق العمل من ناحية المخرجات والاحتياجات، والسبب في وصفي لها بالمضطربة سيتضح بعد قليل. لكن الجدير بالذكر هنا هو أن تلك القضية ليست محصورة في مجتمع بذاته أو في بلد بعينه، بل تشغل بال العديد من المجتمعات والدول على مستوى العالم ككل. أما القضية الثانية فهي تركيز صاحب التصريح على دور المدارس بالتحديد، في الوقت الذي يحتل فيه خريجو مؤسسات التعليم العالي تلك المرتبة من الجدال الدائر عالمياً بين الجامعات وأصحاب الأعمال.
وبمعنى آخر، فلطالما كان النقاش يدور ليس حول مدى نجاح مؤسسات التعليم العالي في إعداد وتأهيل خريجيها لدخول سوق العمل بسهولة فقط، بل وفي قدرة هؤلاء الخريجين على الاحتفاظ بوظائفهم لأطول فترة ممكنة، وعلى التطور فيها أيضاً. ولذا فإن تحول بؤرة الحديث الآن نحو مدى قدرة المدارس على إعداد وتأهيل الطلبة لسوق العمل، وليس فقط للالتحاق بالجامعات، هي نقطة تحول على قدر كبير من الأهمية الاستراتيجية على مستويات ثلاثة: أولها العلاقة المستقبلية بين المدارس والجامعات من ناحية المخرجات والمدخلات، وثانيها مدى قدرة الحكومات على إعادة صياغة رسالة المدرسة (وليس الجامعة) ومهمتها، لتتوافق مع احتياجات سوق العمل.. أما المستوى الثالث فهو إعادة هيكلة جذرية - إدارية وتعليمية - للمدارس لكي تتحمل عبء إعداد طلابها لسوق العمل المحلي في ظل العلاقة الضرورية بين المدارس وأصحاب الأعمال.
أما القضية الثالثة التي أثارها برأيي تصريح الرئيس التنفيذي لمصرف «جي بي مورجان تشيس» فتتعلق بالمهمة الرئيسة لنظام التعليم بصورة عامة، وهل تدور حول تزويد الطلبة بالمعارف والمعلومات فقط، على حساب المهارات، أم بمزيج بينهما؟ وكيف يتم تحديد ذلك المزيج من وجهة نظر القائمين على نظام التعليم وأصحاب الأعمال معاً؟ بعض جهات العمل الكبرى على مستوى العالم تحاول «التدخل»، على نحو ما، في أنظمة التعليم العالي بغية تغيير مناهجها الدراسية لكي تتضمن إكسابَ الطلبة المهارات والعلوم التي تحتاجها هذه الجهات في الطلبة الذين يتم اختيارهم مسبقاً، وذلك كله من خلال تخصيص المنح الدراسية الضخمة والتبرعات السخية للجامعات.
ولطالما كانت هناك كتابات علمية ومناظرات تصل إلى حد «الاضطراب» بين الجامعات وأصحاب الأعمال في هذا المجال كما ذكرت سابقاً. والخلاصة هي أن العالم على وشك تأسيس مناخ جديد بين المدارس، وليس الجامعات، وسوق العمل، الأمر الذي يتطلب الاستعدادَ له ودراسته بعناية من جانب الجهات الحكومية وأصحاب الأعمال. *باحث إماراتي