حرصت دولُ حلف «الناتو» منذ نشوب حرب أوكرانيا على تجنب التورط المباشر فيها. ولهذا فرضت قيوداً على استخدام القوات الأوكرانية الأسلحةَ التي يُزوِّدُها بها أعضاءُ الحلف، ومن أهمها عدم استخدام هذه الأسلحة في ضرب أهدافٍ داخل روسيا. غير أن هذا الحرص المحمود بدأ في التراجع، وإن بشيءٍ من الحذر حتى الآن. لم يعد الأمين العام لحلف «الناتو» ينس ستولنبرغ وحده الذي يرى ضرورةَ الحد من القيود التي فُرضت على أوكرانيا والسماح لها باستخدام الأسلحة الغربية لضرب أهدافٍ داخل روسيا، بدعوى تمكينها من الدفاع عن نفسها.
فعندما أعاد ستولنبرغ الحديثَ حول هذا الموضوع في افتتاح اجتماع وزراء خارجية دول الحلف في براغ، يوم 30 مايو الماضي، كانت بعض هذه الدول قد بدأت في مراجعة القيود التي سبق أن فرضتها على استخدام أسلحتها في حرب أوكرانيا. ولا تقتصر هذه المراجعة على الخطاب الرسمي، بل تَشملُ تغييراً في بعض القواعد التي تحكم استخدام أوكرانيا الأسلحةَ الغربية منذ بداية الحرب.
فقد قررت الولايات المتحدة مثلاً رفع بعض القيود التي فرضتها من قبل، وسمحت لكييف باستخدام الأسلحة الأميركية سواء في «تحييد» قواعدٍ تُطلقُ منها المُسيَّرات التي تضربُ أهدافاً داخل أوكرانيا، أو في ضرب مناطق قريبة من الحدود، مع التأكيد على رفضها استهداف موسكو والعمق الروسي.
وحذت ألمانيا حذوَها، إذ سمحت لكييف باستخدام الأسلحة التي تمدها بها في ضرب مناطق روسية قريبة من حدودها، لكن من دون تحديدٍ دقيقٍ فيما يبدو لهذه المناطق. وهذا ما يُستنتجُ من البيان الذي أعلنه شتيفن هيبستريت، المتحدث باسم المستشار الألماني، في الأول من يونيو الجاري.
ولم تمض أيامٌ حتى استهدفت طائرةٌ حربيةٌ أوكرانيةٌ مركزَ قيادةٍ روسي في منطقة بيلغوورد. وتتجه دولٌ أوروبيةٌ أخرى إلى تبني سياسة الرفع الجزئي للقيود على استخدام أوكرانيا الأسلحةَ الغربية، وخاصةً بريطانيا وهولندا وبولندا.
كما أبدى الرئيسُ الفرنسي ماكرون استعدادَه لإرسال قواتٍ إلى أوكرانيا في حال اخترقت روسيا ما سمَّاها «خطوط الجبهة». غير أن هذا الاتجاه يَلقى معارضةً من دولٍ تخشى أن يكون بمثابة كرة ثلجٍ تتدحرجُ ويصعب وقفها، فتكون النتيجةُ نشوب حربٍ مع روسيا. حربٌ واسعةٌ في أوروبا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية هي ما تخشاها هذه الدول، ومن أهمها إيطاليا وإسبانيا.
وكان وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني واضحاً في حديثه في آخر مايو الماضي عن هذا الخطر، إذ حذر مما سمَّاه وضعاً دقيقاً يفرض تجنب اتخاذ خطواتٍ متسرعة. والمتوقعُ أن يكون هذا الخلافُ حاضراً بقوةٍ في قمة «الناتو» المقبلة، التي ستُعقدُ في واشنطن بين يومي 9 و11 يوليو المقبل، على نحوٍ قد يجعلُها إحدى أهم الاجتماعات في تاريخ الحلف، لأنها ستعطي مؤشراً أكثر وضوحاً إلى احتمال نشوب حربٍ مع روسيا من عدمه في وقتٍ لا يحتملُ العالَمُ فيه مزيداً من الحروب.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية