عندما صعد الرئيس الإندونيسي المنتخَب المنصة في منتدى أمني إقليمي كبير نهاية هذا الأسبوع، بدا باله مشغولاً بأمور بعيدة عن مضيق ملقا. إذ تركزت الـ 15 دقيقة الأولى من الخطاب الذي ألقاه برابوو سوبيانتو، الذي يشغل أيضاً منصب وزير الدفاع، بشكل كامل تقريباً على الحرب في غزة. فأعرب عن أسفه «للحوادث المفجعة» و«المآسي» التي تعرّض لها الفلسطينيون الذين علقوا في مرمى نيران الحملة الإسرائيلية ضد حركة «حماس»، ودعا إلى تحقيقات في «الكارثة الإنسانية» التي تحدث في غزة ومحاسبة المسؤولين عنها، مرحّباً بجهود إدارة بايدن في المساعدة على رعاية اتفاق يمكن أن يؤدي إلى وقف لإطلاق النار.
وأكد برابوو أن أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم ستكون مستعدة للمساعدة على حماية السلام في الشرق الأوسط؛ إذ قال أمام المندوبين المجتمعين في «حوار شانغريلا»، وهو مؤتمر سنوي تستضيفه سنغافورة: «إننا مستعدون للمساهمة بقوات مهمة لحفظ السلام من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار المرتقب ومراقبته، وكذلك توفير الحماية والأمن لجميع الأطراف».
برابوو لم يكن الوحيد من بين المسؤولين الكثر الذين حضروا المنتدى الذي لفت الانتباه إلى الأزمة في غزة. فقد أرخت الحرب بظلالها على مداولات المنتدى في سنغافورة، حيث أشار قادة ودبلوماسيون وعدد كبير من المحللين من مختلف أنحاء المنطقة إلى المسار المقلق للصراع والظلال التي يلقيها على المخاوف الجيوسياسية الأخرى. وفي هذا الإطار، استنكر وزير الدفاع الماليزي محمد خالد نور الدين «أعمالَ الإبادة الجماعية» التي ترتكبها إسرائيل، وحثّ منظمي القمة - «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، وهو مركز أبحاث بريطاني - على توجيه الدعوة إلى ممثل فلسطيني لحضور اجتماع العام المقبل.
القضية الفلسطينية موضوعٌ مثير للعواطف في دول جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا وماليزيا، حيث تكثر مشاعر التعاطف والتضامن مع المسلمين. ولكن تزايد ضحايا وخسائر الصراع - الذي أودى بحياة أكثر من 36 ألف فلسطيني وعرف تدمير معظم غزة عقب الهجوم المميت الذي شنته «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر - أثار استياء شديداً في العديد من البلدان خارج الغرب: أولاً، بسبب الصدمة من معاناة المدنيين التي رآها الجميع، وثانياً، بسبب الغضب من تواطؤ الحكومات الغربية المتصوَّر، وخاصة الولايات المتحدة، في دعم ما يرونه انتقاماً أميركياً دموياً جاوز الحدود.
الشعور بالقلق والانزعاج إزاء الحرب في غزة أدى إلى نفاد صبر إزاء الدروس والمحاضرات الغربية على جبهات أخرى. فبعد أن ألقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خطاباً، واجهته مشارِكة من كمبوديا بسؤال حول دعمه المعلن لإسرائيل. وأجبرته ملاحظاتها على دعوة إسرائيل إلى احترام القانون الدولي، وكذلك على الدعوة إلى حل الدولتين في الشرق الأوسط. ومن جانبهم، سارع المسؤولون الصينيون الحاضرون في سنغافورة إلى إثارة مسألة تسامح الولايات المتحدة مع الانتهاكات الإسرائيلية المزعومة، وربما وجدوا في الحرب الدائرة هناك وسيلة مفيدة في مواجهة الانتقادات الموجهة إلى بلادهم على خلفية دورها في دعم الغزو الروسي لأوكرانيا.
الخبير في شؤون الشرق الأوسط بـ «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» إميل الحكيّم قال: إن «التباين» بين بعض المسؤولين الآسيويين ونظرائهم الغربيين بشأن قضية غزة كان واضحاً خلال عطلة نهاية الأسبوع، حيث لم يكن الغربيون مستعدين للعواطف العميقة بشأن غزة في المنطقة ولمدى الإحباط إزاء النفاق الغربي المتصور الذي كان موجوداً في الحوار الآسيوي. وقال لي: إن ذلك يشبه «النقطة العمياء» بالنسبة للغرب، رغم أنه قد يكون للمسؤولين الآسيويين نقاطهم العمياء ونفاقهم الخاص بهم أيضاً.
وأضاف: «قد تكون غزة هراوة ومصدر إلهاء، ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن الغربيين يجدون صعوبة في محاولتهم حشد الدعم لآرائهم المعيارية حول النظام القائم على القواعد».
وفي الأثناء، تسعى إدارة بايدن جاهدة لتعزيز شراكاتها الأمنية عبر منطقة المحيطين الهندي والهادئ، غير أنه ما زال يتعين على العديد من الحكومات مواجهة الرأي العام الذي لا يكنّ الود دائماً للولايات المتحدة.
وفي هذا الصدد، قالت لي سوزانا جيسيب، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة «آسيا نيوزيلندا فاونديشن»: «إن ما يحدث هو أن الولايات المتحدة نفسها تصعّب بشكل متزايد على الدول الصغيرة فهم سياساتها ومواقفها والارتباط بها»، مضيفة: «ذلك أنها من جهة، تتحدث عن مدى مصداقية النظام القائم على القواعد، ومن جهة أخرى، ترى دول جنوب شرق آسيا ما يحدث في غزة ودعم الولايات المتحدة لما تقوم به إسرائيل».
ومن جانبه، قال شهرمان لوكمان، الخبير في أمن آسيا بـ «معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية» في كوالالمبور بماليزيا، إن موقف الولايات المتحدة من النظام القائم على القواعد «سيثير حفيظة الناس» في وقت يرى فيه الكثيرون في المنطقة أن تصرفات الولايات المتحدة «أنانية وتمليها المصلحة الذاتية».
«عندما تقاضي جنوب أفريقيا إسرائيل في محكمة العدل الدولية، أليس هذا التزاما بالنظام القائم على القواعد؟ ولكن لا، فمحكمة العدل الدولية تتعرض للشجب والانتقاد من قبل الولايات المتحدة».
ويضيف لوكمان قائلاً: «إنني أؤمن بأن وجود أميركا مهم جداً للاستقرار في آسيا، غير أنه على المدى الطويل لا يمكن لهذا أن يستمر إلا إذا استطاعت البلدان الشريكة «تسويق» علاقاتها مع الولايات المتحدة لشعوبها».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سينديكيشن»