لا شك أن اتحاداً أوروبياً قوياً وملتزماً بإصلاحات مطردة يملك أفضل فرصة للتغلب على هذه التحديات. تصل مغازلة جيورجيا ميلوني إلى نقطة انعطاف هذا الأسبوع، في وقت توجه فيه الأوروبيون في 27 دولة إلى مكاتب الاقتراع. ويمكن القول إن نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبي -- إلى جانب موقف القارة من الدفاع وتغير المناخ والهجرة والاقتصاد -- قد تعتمد إلى حد كبير على رئيسة الوزراء الإيطالية. إنها لحظة مفاجئة بالنسبة لسياسية «يمينية» تسبب صعودها السريع في قلق لبعض زعماء الغرب، وليس أقلهم الرئيس بايدن، حينما تولت منصبها قبل أقل من عامين. وبصفتها رئيسة الحكومة التاسعة والستين لإيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية، والأولى التي ترأسها امرأة، تواجه ميلوني واحداً من أعلى أعباء الديون، وأقل معدلات المواليد في العالم، ناهيك عن خسائر كارثية جراء الجائحة. كما أنها تواجه طوفان المهاجرين، كما وعدت في حملتها الانتخابية، وتسعى لإصلاح الاقتصاد الإيطالي المتصلب والراكد منذ ربع قرن. غير أنها عرفت كيف تلعب أوراقها بدهاء، بل بدهاء كبير لدرجة أنها باتت تعد وسيط السلطة الرئيس في المفاوضات والمناورات السياسية التي من المتوقع أن تعقب الانتخابات التي ستنتهي يوم غد الأحد بانتخاب البرلمان الذي يمثّل سكان الاتحاد الأوروبي الـ450 مليون نسمة.
وإذا كان هذا الدور من نصيبها بالفعل، وهو ما يتوقعه القادة الأوروبيون، فإنها ستواجه خياراً حاسماً في رسم مسار القارة لبقية هذا العقد. إذ سيكون أمامها خياران. الأول هو أن تضع الفصيل القومي الذي تتزعمه في البرلمان الأوروبي، إلى جانب البراغماتيين الذين يعملون على تعميق التكامل والاندماج الأوروبي منذ عقود، بما يؤدي إلى بناء إجماع على محاربة تغير المناخ والتعامل مع النفوذ الروسي. أما الخيار الآخر، فهو أن تتحالف مع الشعبويين اليمينيين المتشددين والأقرب إليها إيديولوجياً -- أمثال زعيمة اليمين المتشدد الفرنسية مارين لوبين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان – اللذين سيشكّل ازدراءُهما القواعد الأوروبية وتدابير خفض الكربون، وكذلك معركة أوكرانيا من أجل سيادتها – مثلما يخشى الكثيرون، تحدياً لهوية أوروبا وقيمها. ولا أحد يعرف ماذا ستفعل ميلوني. أما منافساها، فهما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وهي محافظة ألمانية من التيار الرئيسي المعتدل، ولوبين، التي تخلصت من ماضي حزبها المعادي للسامية وباتت تتصدر الآن استطلاعات الرأي الفرنسية. وقد كانت كل منهما صريحة ومتعجلة في ملاحقة ميلوني، ولكن أياً منهما لم تظفر بدعمها حتى الآن. الزعيمة الإيطالية، التي تتصف بالدهاء، تتحين الفرصة ولا تتسرع. إذ تبقي خياراتها مفتوحة – وعينها على استطلاعات الرأي التي تتوقع مكاسب واسعة للأحزاب اليمينية، بما في ذلك حزبها، في الانتخابات. إذ تُظهر استطلاعات الرأي احتلال الأحزاب اليمينية المتشددة المركز الأول، أو الثاني في معظم الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا، وإسبانيا، وبولندا، وإيطاليا. وإذا صحّت هذه الاستطلاعات، فهذا يعني أن فون دير لاين، التي تسعى للحصول على ولاية ثانية من 5 سنوات كرئيسة تنفيذية للاتحاد الأوروبي، قد تجد صعوبة في تشكيل ائتلاف مع حلفائها الوسطيين الذي تقلص عددهم. وهي لم تخفِ رغبتها في الدعم من فصيل ميلوني، أو حاجتها إليه. غير أنه من شأن صفقة كبرى مع ميلوني أن تُغضب أعضاء كتلة المشرّعين المعتدلة التي تنتمي إليها فون دير لاين، ما سيدفع بعضهم للتصويت ضدها خلال التصويت السري في البرلمان.
وفي الأثناء، دعت لوبين علناً إلى صفقة واسعة بين الأحزاب اليمينية لدمج قواتها مع قوات ميلوني. ومعاً تستطيعان إنشاء ميثاق تُحدث قوته المشتركة، التي تصل إلى خُمس مقاعد البرلمان الـ720 مقعداً، صدمة للطريقة المعتادة التي تتم بها الأشياء في بروكسل. من بعض النواحي، قد يكون الاختيار المطروح أمام ميلوني هو بين اتباع عقلها، أو اتباع قلبها. فالأول يعني التمسك بالوسط، وهو ما من شأنه أن يُطمئن الأسواق، ويحمي الإعانات الضخمة التي تحصل عليها إيطاليا من بروكسل -- أكثر من 200 مليار دولار من أموال التعافي من الجائحة. أما الثاني، فيعني الإمعان في القضايا التي أدت إلى صعود ميلوني السياسي، ومن ذلك الدعوات إلى الدفاع عن هوية أوروبا العرقية ضد تدفق المهاجرين، والعائلات التقليدية ضد حقوق مجتمع الميم، والسيادة الوطنية ضد قيود الاتحاد الأوروبي التنظيمية. ميلوني، التي تبرع في التكتيك السياسي، حافظت منذ توليها السلطة على علاقات وثيقة مع زعماء اليمين المتشدد في أوروبا ، بمن فيهم لوبين وأوربان، المعجبان ببوتين منذ وقت طويل.
وفي الأثناء، تمكنت من التخفيف من حدة خطابها الذي كان نارياً في السابق، كما طهّرت حزبها من السموم رغم جذوره التي تمتد إلى الفاشية الإيطالية خلال مرحلة ما بعد الحرب، وطمأنت بايدن وحلفاء آخرين في حلف الناتو بدعمها أوكرانيا من دون تحفظ. وكما قالت مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية، إنها دليلٌ على أن «ما يسمى باليمين المتشدد في أوروبا يمكن أن يتصرف مثل محافظين عاديين حين يصل إلى السلطة». تواجه أوروبا حرباً مدمرة على خاصرتها الشرقية، واقتصادات ضعيفة تتخلف عن الولايات المتحدة والصين، وناخبين غاضبين ومحبطين من الأحزاب الحاكمة والمتجذرة ومن التضخم، والهجرة، وتغير المناخ (أو إجراءات مكافحته). ولا شك أن اتحاداً أوروبياً قوياً وملتزماً بإصلاحات مطردة يملك أفضل فرصة للتغلب على هذه التحديات، ولكن الأكيد أيضاً أن ميلوني قد ترجّح فرص نجاح التكتل أو تنسفها.
*كاتب وصحافي أميركي مقيم في باريس
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»