جديرة هي تلك القراءات النقديّة التاريخية لسيرة الزعيم جمال عبدالناصر، فمعها يُعيد هذا الجيل استعراضات الأزمنة بتحولاتها مع النظر إلى ديناميكيات التغيير التي طرأت على المنطقة العربية. أحد محفزات تناول هكذا استعراض قراءة ما جاء به الصحافي الأميركي أليكس رويل في كتاب «نحن جنودك»، ومهما كانت النظرة إلى أن عبدالناصر كرسّ مما تراه العيون الغربية «الحكم الاستبدادي» في العالم العربي غير أن لكل مدينة من بلاد العرب مقاربتها في ما تنظر إليه حول الناصرية، فإن كانت وجهة نظر «أليكس رويل» أن بيروت خسرت وجهها الليبرالي بعد أن زارتها السحابة الناصرية، فإن لمدن أخرى رواية مختلفة.

بيروت وعدن وبغداد ودمشق كانت عواصم تأثرت وأثرت في القاهرة من قبل الظاهرة الناصرية، ولطالما أشار المستشرقون إلى هذه العواصم على أنها مدن التنوير، فما شكلته قبل ثورة يوليو 1952 المصرية يعتبر حقبة لها خصوصيتها ومسارها، كما أن طبيعة التكوين في حقبة الاستعمار الأجنبي ما بعد الاحتلال العثماني هي ما أسست في مضمونها لجوهر الناصرية تياراً سياسياً، والبعد الفكري لذلك المسار جاء من تفاعلات لها عمقها في الوجدان قادتها حركة القوميين العرب و«البعثيون» المتشبعون بنظريات اليساريين. بيروت عرفت الاستقلال الوطني مبكراً قبل أن ينجح الضباط الأحرار في تغيير وجه الشرق الأوسط بالكامل، وحتى مع اغتمار المدن العربية بالناصرية لم يحدث ما صنع الحدود الوطنية حتى جاء تأميم قناة السويس 1956.

فبعدها جاء العدوان الثلاثي الذي عنده حدد عبدالناصر التعريف المطلق للأمن القوميّ العربي باعتبار أن أمن مصر مرتبط بالممرات المائية عبر البحر الأحمر، جاء القرار بدعم «الجبهة القومية» في عدن كأحد أهم القرارات التي صنعت وجه المنطقة بالكامل، رحيل بريطانيا عن الجنوب العربي سرّع في ظهور دول الخليج العربية ووضع المضائق المائية من هرمز، ومروراً بباب المندب، ووصولاً إلى قناة السويس في قبضة الدول الوطنية العربية. كان على عدن أن تخوض معركة أخرى بعد الجلاء البريطاني ضمن صراع الناصرية ضد خصومها، وحرب اليمن في العام 1969 شكلت قطيعة للنظام السياسي في جنوب اليمن مع امتداده في شبه الجزيرة العربية.

واندفعت «الجبهة القومية» أكثر باتجاه المعسكر السوفييتي، وتطرفَ اليساريون إلى أبعد مدى في استضافتهم حركات التحرر الفلسطينية واليمنية الشمالية والظفارية. المؤكد أن عدن تخلت عن شيء من توجهاتها الغربية، غير أنها تحولت لحاضنة من حواضن الماركسية في المنطقة. صحيح أن الحزب الاشتراكي عمّق من الاستقطاب، غير أنه ضمن صراع المحاور الدولي والإقليمي كان مجبراً على هذه السياسات من بعد مؤتمر اللاءات العربية الثلاث في الخرطوم. عدن لم يطعنها أحد في خاصرتها غير جبهتي اليمن الشمالية، و«فتح» الفلسطينية.عدن لم تخسر معركتها ضد خصومها، بل أثبتت القطيعة أنها كانت الفعل الصحيح مع الفكر الأيديولوجي المتأسلم.

والتجربة الماركسية في جنوب اليمن كانت شكلاً حاداً في التطرف الناصري حتى إنها رغماً عن الطعنة اليمنية ذهبت للوحدة مع صنعاء، وفي الواقع هي ارتماء في أحضان قوى فتكت بها، وها هي بالمناسبة تحتفي بالذكرى الثلاثين لفك الارتباط المعلن في عام الغزو اليمني للجنوب في صيف مايو. ليبرالية عدن وبيروت وبغداد ودمشق لم تتلاش، بل إن الاختبارات العسيرة أكدت أن التيار الليبرالي لم يمت فهو وإنْ كان ضعيفاً، لكنه يلعب أدوراً متقدمة، وما نموذج الجنوب الذي يخوض معركة مع العقلية الرجعية سوى صورة واضحة على أن إرث كل عاصمة سيبقى قادراً على أن يكون الحائط الأخير لصمودها.

*كاتب يمني