وسط موسم انتخابي آخر، يمكن تفهّم ميلنا لمناقشة الديمقراطية الأميركية من منظور سياسي واحد، والحال أنه سيكون من الأفضل تأمل سؤال ثان وثيق الصلة بهذا الموضوع أيضاً، ألا وهو: ما هو النظام الاقتصادي المفيد لأكبر عدد من الناس؟ على أحد جانبي النقاش الاقتصادي يوجد أولئك الذين يؤمنون بالأسواق غير المقيّدة، التي يُسمح فيها للشركات بتجميع قوة السوق أو التلويث أو الاستغلال. ويعتقد هذا الفريق أنه يجب على الشركات أن ترفع من قيمة حقوق المساهمين إلى أقصى حد ممكن، وتفعل كل ما يمكنها فعله من دون الخضوع للمساءلة أو المحاسبة، لأن الأرباح الكبيرة تصبّ في المصلحة العامة.

أشهر أنصار هذا الاقتصاد الذي يركز على المساهمين ويقوم على ضرائب منخفضة/تقنين منخفض في القرن العشرين، والذي يُشار إليه غالباً بالليبرالية الجديدة، هما ميلتون فريدمان وفريدريك حايك. وقد أخذ هذان الاقتصاديان الحائزان جائزة نوبل هذه الفكرة إلى ما هو أبعد من الاقتصاد، فزعما أن هذا النوع من النظام الاقتصادي ضروري لتحقيق الحرية السياسية. وحتى الآن، كانت لدينا أربعة عقود من «التجربة» الليبرالية الجديدة، بدءاً من رونالد ريجان ومارغريت تاتشر. والنتائج واضحة. فقد وسّعت الليبرالية الجديدة حرية الشركات والمليارديرات حتى يفعلوا ما يشاؤون ويحشدوا ثروات طائلة، ولكن كان لها أيضا ثمن باهظ، ألا وهو: رفاهية بقية المجتمع وحريته. بيد أن التحليل السياسي لليبراليين الجدد كان أسوأ من سياستهم الاقتصادية، وكانت عواقبه ربما أخطر. ذلك أن فريدمان وأتباعه فشلوا في استيعاب سمة أساسية من سمات الحرية، ألا وهي حقيقة أن هناك نوعين منها، نوع إيجابي وآخر سلبي، حرية الفعل والحرية أو التحرر من الأذى. فـ «الأسواق الحرة» وحدها تفشل في توفير الاستقرار الاقتصادي أو الأمن إزاء التقلبات الاقتصادية التي تخلقها، ناهيك عن السماح لقطاعات كبيرة من السكان بالارتقاء إلى مستوى إمكاناتهم الحقيقية.

ولا بد من تدخل الحكومة من أجل تحقيق كليهما. وبقيامها بذلك، توسِّع الحكومة الحرية بطرق شتى. ... فالطريق إلى الاستبداد لا يعبِّده قيامُ الحكومة بأكثر مما ينبغي وإنما قيامها بأقل مما ينبغي. وارتفاع الدعم للشعبوية، وخاصة للنوع القومي القبيح منها، له أسباب عديدة. وسيكون من المغالاة في التبسيط نسبه إلى الاقتصاد فقط. غير أنه ليس من قبيل الصدف أن تمثّل القومية الشعبوية تهديداً أكبر في بلدان مثل الفلبين والولايات المتحدة منها في السويد والنرويج والدنمارك، حيث يحرِّر التعليم العام المجاني عالي الجودة، وإعانات البطالة السخية، والرعاية الصحية العامة القوية.. المواطنين من مصادر القلق المألوفة التي تقضّ مضجع الأميركيين بشأن كيفية دفع تكاليف تعليم أطفالهم أو فواتيرهم الطبية. والاستياء يتفشى في الأماكن التي تواجه ضغوطاً اقتصادية لم تعالَج، حيث يشعر الناس بفقدان السيطرة على مصائرهم، وحيث لا يتم فعل شيء من أجل معالجة البطالة وانعدام الأمن الاقتصادي وانعدام المساواة. وهو ما يوفّر أرضية خصبة للديماغوجيين الشعبويين الموجودين بكثرة في كل البلدان.

وهذا ما أعطانا، هنا في الولايات المتحدة، دونالد ترامب. إننا نهتم بالتحرر من الجوع والبطالة والفقر، وبالتحرر من الخوف، كما قال فرانكلين روزفلت. فالأشخاص الذين يملكون فقط ما يكفي ليسدّوا به رمقهم لا ينعمون بالحرية، وإنما يفعلون ما يتعين عليهم فعله من أجل البقاء. وعلينا أن نركز على منح عدد أكبر من الناس الحرية من أجل الارتقاء إلى مستوى إمكاناتهم والازدهار والإبداع. فالأجندة التي من شأنها أن تزيد من عدد الأطفال الذين ينشؤون في الفاقة أو من عدد الآباء المهمومين الذين يشعرون بالقلق بشأن كيفية تسديد تكاليف الرعاية الصحية الضرورية لتحقيق أبسط الحريات، حرية العيش، ليست أجندة حرية. وفضلا عن ذلك، فإن المدافعين عن النظام الليبرالي الجديد كثيراً ما يفشلون في استيعاب أن حرية شخص ما تعني فقدان شخص آخر لها أو أن الحرية بالنسبة للذئاب كثيراً ما تعني الموت بالنسبة للخرفان، كما قال المفكر البريطاني آيزايا برلين. فحرية حمل السلاح قد تعني الموت بالنسبة لأولئك الذين يُقتلون بالرصاص في أعمال القتل الجماعي التي باتت حدثاً شبه يومي في الولايات المتحدة. والحرية في عدم تلقي التطعيم أو ارتداء الكمامات قد تعني فقدان آخرين للحرية في الحياة. غير أن هناك مقايضات، والمقايضات هي أساس الاقتصاد.

فعلى سبيل المثال، تُظهر أزمة المناخ أننا لم نذهب بعيداً بما فيه الكفاية بخصوص تقنين التلوث، والحال أن منح الشركات مزيداً من الحرية في التلويث يحدّ من حريتنا في عيش حياة صحية، بل وحتى من حرية العيش، كما في حالة المصابين بالربو. كما أن تحرير المصرفيين مما كانوا يزعمون أنها لوائح تنظيمية مرهقة ومقيِّدة بشكل مفرط يعرّضنا لخطر انكماش اقتصادي قد يكون بنفس سوء «الكساد الكبير» الذي وقع في ثلاثينيات القرن الماضي عندما انهار النظام المصرفي في 2008. وهذا ما أجبر المجتمع على تقديم مئات المليارات من الدولارات للبنوك في أكبر خطة إنقاذ مالي على الإطلاق. هذا في حين واجه بقية أفراد المجتمع تقليص حرياتهم من نواح عديدة، بما في ذلك التحرر من الخوف من فقدان المرء لمنزله ووظيفته ومعهما تأمينه الصحي. ولكن بعض حالات انعدام الحرية قد تكون مفيدة للمجتمع ككل، إذ توسِّع حريةَ كل المواطنين، أو معظمهم على الأقل. فإشارة الضوء الأحمر في قواعد المرور، الذي يحدّ من حريتي في عبور التقاطع، يُعد مثالاً جيداً في هذا الصدد. إذ بدونها سيكون هناك ازدحام مروري وفوضى. وفرضها على حريتي إنما يعزّز حريتنا جميعا، بما في ذلك حريتي.

هذا المنطق يمكن أن يطبّق بشكل أوسع. نحتاج إلى المال للقيام بالاستثمارات الاجتماعية اللازمة لاقتصاد القرن الحادي والعشرين في البحوث والتكنولوجيا، والبنية التحتية، والتعليم، والصحة. وكل هذا يتطلب إيرادات ضريبية. والضرائب، كما نعلم، تتطلب الإرغام لمنع استفادة البعض من مساهمات الآخرين بشكل مجاني ومجحف. وهكذا، فشلت الرأسمالية الليبرالية الجديدة من الناحية الاقتصادية: ذلك أنها لم تحقق النمو، ناهيك عن الرخاء المشترك. ولكنها أخفقت أيضاً في وعدها بوضعنا على طريق آمن نحو الديمقراطية والحرية، وعوضاً عن ذلك، وضعتنا على طريق شعبوي يزيد من احتمالات الفاشية في القرن الحادي والعشرين.

وهؤلاء الشعبويون المقبلون يحدّون من حريتنا ويفشلون في الوفاء بوعودهم، كما يبيِّن شكلُ رأسمالية المحسوبية التي يقدّمها ترامب. غير أن هناك بديلاً؛ فاقتصادات القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تدار إلا من خلال اللامركزية، وهو ما يتطلب مجموعة غنية من المؤسسات، من الشركات الربحية إلى التعاونيات والنقابات والمجتمع المدني الملتزم والمنظمات غير الربحية والمؤسسات العامة. هذه المجموعة الجديدة من التدابير الاقتصادية أسمّيها «الرأسمالية التقدمية»، وتُعد اللوائح الحكومية والاستثمارات العامة المموّلة من الضرائب عناصر أساسية فيها. وخلاصة القول: إن الرأسمالية التقدمية نظامٌ اقتصادي لن يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والازدهار والمساواة فحسب، ولكنه سيساعد أيضاً على وضعنا جميعاً على طريق مزيد من الحريات.

*كاتب وأكاديمي أميركي حائز جائزة نوبل في الاقتصاد

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوسط لايسنسينج ىند سيندكيشن»