أصبح طقساً مألوفاً أن يقوم مجلس النواب أو مجلس «الشيوخ» باستدعاء رؤساء شركات التكنولوجيا الكبرى إلى مقر الكونجرس لحضور جلسة استماع. فيثرثر المشرّعون، ويشتكون، ويسخرون من المديرين التنفيذيين، ويوبخونهم على الأضرار الواضحة التي تعزى إلى خدماتهم: كل شيء من مشاكل الصحة العقلية بالنسبة للأطفال إلى التدخل في الانتخابات. ويتظاهر المديرون التنفيذيون بالقلق بشأن كل المشاكل المنسوبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي. ويبدون غير صادقين وحذرين، في حين يبدو المشرعون غير ملمين حتى بأبسط أمور هواتفهم المحمولة. ثم تنتهي جلسة الاستماع، ويغادر المسؤولون التنفيذيون ولا يتغير شيء. هذه المسرحية ستنتهي قريباً، فقد أفادت صحيفة «واشنطن بوست» بوجود «مقترح شامل من شأنه أن يمنح المستهلكين لأول مرة حقوقاً واسعة للتحكم في الكيفية التي تستخدم بها شركات التكنولوجيا مثل («جوجل»و«ميتا»و«تيكتوك») بياناتهم الشخصية، وهو ما يُعد إنجازاً كبيراً في الكفاح المستمر منذ عقود لاعتماد وسائل حماية وطنية للخصوصية على الإنترنت».
«قانون حقوق الخصوصية الأميركي»، الذي اقترحته السيناتورة «الديمقراطية- عن ولاية واشنطن»، ماريا كانتويل، رئيسة لجنة التجارة بمجلس «الشيوخ»، وأيضاً «كاثي ماكموريس رودجرز» (نائبة «الجمهورية» عن ولاية واشنطن)، رئيسة لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب، وهو اقتراح من شأنه وضع معيار موحد لجمع البيانات و«منح المستخدمين الحق في رفض بعض الممارسات المتعلقة بجمع البيانات أو الانسحاب منها، بما في ذلك الإعلانات المستهدفة». كما من شأنه «إلزام الشركات بجمع المعلومات بالقدر الذي تحتاجه فقط لتقديم منتجات معينة للمستهلكين، مع منح الأشخاص القدرة على الوصول إلى بياناتهم وحذفها ونقلها بين الخدمات الرقمية». ولعل أبرز ما يميز مشروع القانون هذا أن من شأنه إنهاء الحصانة الشاملة من التقاضي التي كانت تتمتع بها هذه الشركات، ما سيسمح للأفراد بمقاضاة الشركات في حال «فشلت في تلبية طلبات حذف البيانات أو الحصول على موافقة صريحة قبل جمع البيانات الحساسة».
بيد أن قضية خصوصية البيانات ليست سوى واحدة من موضوعات تكنولوجية حساسة عديدة تثير غضب الناخبين والسياسيين على حد سواء. فهذا المقترح لن يعالج عدداً كبيراً من المشاكل الأخرى المرتبطة بشركات التكنولوجيا الكبرى مثل الضرر الذي يلحق بالصحة العقلية للقاصرين، والخوارزميات المسببة للإدمان والتشدد، والمعلومات المضللة في مجالي الانتخابات والصحة، والتزييف العميق، والتلاعب غير المعلن باستخدام الذكاء الاصطناعي، وخطاب الكراهية، والإعلانات السياسية المجهولة المستثناة من اللوائح والقوانين التي تتعلق بالإعلانات التلفزيونية، والتكتيكات الاحتكارية التي تحد من المنافسة. كما أنه لن يتعامل مع مسألة الملكية الصينية لـ«تيكتوك».
غير أنه إذا كان على الكونجرس أن يبدأ من مكان ما لكسر الإفلات من العقاب الذي تشتغل في ظله شركات الإنترنت، فلا شك أن مشروع القانون هذا يمثّل بداية واعدة. وفي هذا الصدد، أشادت «مايكروسوفت» بهذا الجهد. كما أشاد به «معهد التكنولوجيا المفتوحة»، الذي يشتغل تحت رعاية مركز الأبحاث «نيو أميركا» المحسوب على تيار يسار الوسط، لتضمنه «ركائز ضرورية لتشريعات الخصوصية السليمة. غير أنه مقارنة بمشروع قانون تم تقديمه في 2022، يشير المعهد إلى أن الجهد الحالي لا يتضمن تدابير قوية في ما يتعلق بخصوصية الأطفال.
والواقع أنه من غير الأكيد أن ينجح مشروع قانون بهذا التعقيد، يضع مصالح العديد من شركات التكنولوجيا في مواجهة مصالح المستهلكين، في المرور عبر واحد من أكثر مجالس الكونجرس شللاً وجموداً في التاريخ. وحتى في أفضل الظروف، كان ذلك سيكون في غاية الصعوبة.
ولكن احتمالات الهزيمة كبيرة بالنظر إلى مجلس نواب جمهوري عجز حتى عن مناقشة مشروع قانون أوكرانيا، ومجلس شيوخ يضم أعضاء لا يكفّون عن الانتقاد ويبرعون في خطابات المماطلة و«شراء الوقت» مثل السيناتور تيد كروز (الجمهوري عن ولاية تكساس)، الذي يستمتع بالظهور بمظهر مجهض المؤامرة اليسارية المزعومة التي تهدف للإضرار بالمحافظين على وسائل التواصل الاجتماعي. وفضلاً عن ذلك، من المتوقع أن يتم تقصير جدول أعمال الكونجرس في الخريف بسبب الانتخابات، مما سيترك القليل من الوقت حتى للتشريعات التي يجب أن تمرر ولا تحتمل الانتظار. بيد أن هناك عدة عوامل تصب في صالح مقترح الخصوصية.
فأولاً، هذا موضوع معقد بما يكفي ليبقي هجمات تيار«ماغا» اليميني (تيار لنجعل أميركا عظيمة من جديد) عند حدها الأدنى. ذلك أن المواضيع التي تندرج ضمن القضايا المعقدة يمكنها في كثير من الأحيان أن تفلت من رادار وسائل الإعلام اليمينية، والأهداف الكبيرة والمغرية مثل حظر الإجهاض، والغزو المزعوم على الحدود الجنوبية، وقطع المساعدات عن أوكرانيا... هي موضوعاتهم الأثيرة.
وثانياً، من ذا الذي لا يؤيد«الخصوصية»؟ إنها موضوع جذاب وقانون يبعث على الشعوربالراحة والرضا يمكن للمشرعين الذين لديهم إنتاج منخفض في إصدار التشريعات الترويج له في الداخل. أما العامل الأخير، فهو أن استياء الحزبين من شركات التكنولوجيا وصل إلى مستويات جديدة. وبالتالي، فإن كلا الجانبين لديه مصلحة في الإشارة إلى شيء ما قاموا به للدفاع عن الأميركيين ضد هؤلاء الرؤساء التنفيذيين المليارديرات الذين يسعدون بتقريعهم. وختاماً، حينما يهتم اثنان من المشرّعين على الأقل بالحكم الرشيد ويستثمران الوقت في شؤون السياسة، يجدر بالناخبين الاحتفاء بذلك. وإذا استطاع الكونجرس تحقيق شيء ما على هذه الجبهة، فربما يشجّع ذلك على الإصلاح في مجالات أخرى. وفي جميع الأحوال، فإن أي فوز ضد شركات التكنولوجيا الكبرى -- المعروفة بمقاومتها لأي تقنين أو تنظيم -- سيكون أمراً مرحبا به.
*كاتبة أميركية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنينج آند سيندكيشن»