عودة إرهاب «داعش» و«القاعدة» الى نشرات الأخبار وإلى مشهد الصراعات الإقليمية والعالمية، في السودان وروسيا واليمن وغيرها، يعيد الى الذهن مجموعة ملاحظات مهمة وجب التذكير بها:
الفكر المتطرف، أياً كان شكله أو لونه، يمرض لكنه لا يموت! هذا الفكر ولضرورات «المهادنة السياسية» التي تحترفها جماعات الإسلام السياسي، يتظاهر كثير من أصحابه أحياناً بالتوبة والعدول عن أفكارهم المتطرفة. لكن وما أن تتاح الفرصة لهم من جديد حتى يُظهرون علناً ما يبطنونه سراً من فكر أحادي إقصائي دموي. أصحاب هذا الفكر المتطرف ينشطون في مواقع الفوضى حول العالم الإسلامي لأسباب كثيرة منها أن بعض أطراف النزاعات المحلية أو حتى الدولية يعودون للعبتهم القديمة وهي استغلال هوس تلك الجماعات بالتكفير والقتل فتُفتح الطرق أمامهم للمشاركة في إحداث المزيد من الفوضى لتحقيق مكاسب سياسية على أرض النزاعات. ولهذا لم يكن مستغرباً أن نقرأ بعض التقارير التي تؤكد وجود مجموعات من «الدواعش» وصلت إلى الخرطوم ومناطق أخرى في السودان لإرتكاب أبشع الجرائم بحق الأبرياء. وعلى نفس المنهج، تنشط جيوب «القاعدة» في جنوب اليمن مستغلة الأوضاع غير المستقرة هناك.
الملاحظة الثانية، وهي امتداد لسابقتها، أن هذه الجماعات المتطرفة تعمل كأدوات لألاعيب سياسية وتُستخدم كأدوات ضغط وابتزاز من قبل جهات إقليمية ودولية في لعب سياسية معقدة. فكما تم استخدامها من قبل في تأجيج الصراعات الطائفية في سوريا والعراق وغيرهما هاهي القصة تتكرر من خلال استغلال أحداث غزة لنشر الفوضى في الأردن ومصر وغيرهما. وحتى اليوم، ما يزال العالم يترقب تفاصيل جديدة في التحقيقات حول المجزرة التي حدثت في قاعة (كروكوس سيتي هول) بموسكو قبل أسبوعين والتي أودت بحياة 139 إنساناً بريئاً. «داعش خراسان» أعلن مسؤوليته عن تلك الجريمة البشعة لكن معظم التحليلات تؤكد أن التنظيم الإرهابي تلقى مساعدة استخباراتية من جهات دولية تسعى لإرباك الصف الروسي في حربه مع أوكرانيا. وأستطيع أن أضيف هنا أن ثمة مصلحة أميركية وغربية من تعكير صفو المشاعر الإيجابية في روسيا تجاه العالم الإسلامي في السنوات القليلة الماضية. وتورط «داعش خراسان» في مثل هذه الجريمة يأتي في سياق العمليات السابقة، في العالم الإسلامي وخارجه، تلك التي تقوم بها جماعات متطرفة محسوبة على المسلمين ولا تؤذي، في نهاية المطاف، سوى المسلمين أنفسهم.
الملاحظة الثالثة أن الحرب مع الفكر المتطرف حرب طويلة وتحتاج الى جهد ضخم ومواجهة جريئة. هذه الحرب تحتاج أن لا ترتبط فقط بنشاط الجماعات المتطرفة في مناطق الصراع والفوضى. نحن بحاجة دائمة لمراجعة ومراقبة كل الخطابات الدينية، في المناهج المدرسية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وعبر المنابر والشاشات. الأفكار الدينية المتطرفة حينما تتسلل عبر مناهجنا أو أنشطتنا الدينية أو أي قناة كانت فإنما تهيء الناشئة بطرق هادئة للانسجام مع الفكر المتطرف أو التعاطف الصامت معه. وكعادتها عند كل أزمة، تراهن الجماعات الإرهابية دائماً على مشاعر التعاطف الشعبي مع ضحايا الأزمات والحروب في العالمين العربي والإسلامي لتبدأ في تجييش الناس ضد المؤسسات في الأوطان المستقرة. وما استغلال قادة «حماس» (وبقية تيارات الإسلام السياسي) لأحداث غزة المأساوية في التحريض العلني ضد الأردن إلا شاهد جديد على استراتيجية جماعة «الإخوان» في إثارة الفتن والفوضى في أي مكان في العالم العربي قد يجدون فيه أي ثغرة!
الملاحظة الرابعة: وتزامناً مع مأساة غزة الراهنة، لك أن تتخيل حجم التجييش الذي كانت جماعات الإسلام السياسي ستدشنه لو لم تكن هناك مواجهة جريئة وصارمة وحاسمة مع هذه التيارات قبل أكثر من 12 سنة. المواجهة الجادة والعلنية ضد «الإخوان المسلمين»، ومن لف لفهم من جماعات الإسلام السياسي، التي بدأتها الإمارات بكل وضوح وحزم، كشفت الستار عن النوايا الخبيثة المُبيتة لتك الجماعة ليس فقط في الإمارات وإنما في مصر والأردن والمغرب وبقية دول مجلس التعاون الخليجي. تلك المواجهة التي بدأت قبل أكثر من 12 سنة أنقذت المنطقة اليوم من فوضى كانت جماعة «الإخوان» ستشعلها، بلا هوادة، في كل جزء من العالم العربي بذريعة نصرة غزة!
تلك المواجهة الصريحة للتيارات المتطرفة، وعلى رأسها جماعة «الإخوان»، وكشف رؤوس الفتنة حينها أثبتت اليوم صحتها بل وضرورتها خصوصاً أن أزمات المنطقة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كثيرة ومختلفة ومستمرة، وتلك تشكل بيئة خصبة لبروز جماعات التكفير وحركات العنف.
ونختم بضرورة الانتباه لتداعيات مأساة غزة على المجتمعات العربية. فوحشية الحرب الإسرائيلية على غزة يجب ألا تعمي أبصارنا عن أخطار جماعات التطرف والتكفير في منطقتنا، تلك المستعدة دوماً للتضحية بأمن واستقرار الأوطان من أجل مشاريع سياسية طائشة وعبثية!
*كاتب إماراتي