مثير للدهشة ما ذهب إليه «بريت ستيفنز» في نيويورك تايمز عندما كتب مقالاً بعنوان: «الانتداب العربي على فلسطين»، مقدماً أطروحة سريالية فلسفية سبق وأن داعبت مخايل مواطنين عرب على امتداد الأرض العربية. فكل عربي محبط من ما آلت إليه حالة وطنه يرى في أن مدينته وحتى قريته يمكنها أن تكون سنغافورة أخرى، الشعور الطاغي بالإحباط بعث هذه الفكرة حتى استهلكت في المخيال دون أن تكون واقعاً.
الأوطان العربية الناجحة نجحت بقواعد أساسية باعتمادها على كينونتها الوطنية، نقطة النجاح المركزية في النشأة الوطنية وهو ما تقدمت فيه دول عربية تتنافس في كل يوم على المراكز الأولى في التنافسية الدولية، بينما أوطان أخرى تتذيل القوائم وفقاً لمعايير واضحة وبين هذه وتلك لا يمكن الإفراط في تمنيات لا يمكن أن تكون واقعية.إقامة دولة فلسطينية فعلياً مشروع عربي قومي عميق في الوجدان وكذلك في العقل المكوّن لشعوب المنطقة لكن بالواقعية لإقامة الدولة هناك متطلبات مفقودة، فالدولة معلنة منذ العام 1988 من أرض الجزائر، كان ياسر عرفات محاولاً فرض الأمر الواقع ومع ذلك فلقد حقق ذاك الإعلان استجابة أممية تلاها خطوة أهم تمثلت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وهو المسار الذي منح الشعب الفلسطيني للمرة الأولى الحكم الذاتي والاعتراف الكامل بحركة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي، وهنا يفرض الواقع نفسه فالانقسام الفلسطيني هو الذي أخرج الفلسطينيين أنفسهم من المسار الواقعي. لم تكن الفصائل ذات التوجهات الدينية قابلة بحلّ الدولتين مما قادها إلى سلوك عنيف كان الفلسطينيون ضحيته.
أعمق ما يمكن التطرق إليه ليس فقط مقدار ما يمكن أن يقدمه العرب للفلسطينيين، بل إن يستدير العرب أنفسهم أن كانوا يملكون مشروعاً سياسياً واضح الأفق لشعوبهم، يبدو مع هكذا استدارة تتجلى واقعية أن كان العرب عرباً أو هم أعراب في السياسة.
للدول العربية اتجاهات مختلفة بل إنها اتجاهات متضادة في السياسات كما أن هناك دولاً عربيةً مصنفة بأنها فاشلة وأخرى ناجحة. وحالة الاضطراب في اقتناع العربي بأن المشهد لا يمكن له أن ينتج مساراً واحداً واضحاً يضرب تلك الفكرة الفلسفية الحالمة بأن لدى العالم العربي إمكانية التوجه إلى انتداب عربي لفلسطين أو حتى ليبيا أو السودان أو اليمن فالفكرة لا يمكن إنفاذها مع استحضار الواقعية السياسية.
إنكار الواقع سمة من السمات العربية، فالسيكولوجية العربية تعيش استغراقاً في إنكارها للواقع، تعاقبت الأزمات في المنطقة وانتجت واقعاً يرفضه العربي، فلم تعد شعارات الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين قادرة على تبرير أنها كانت حقبة وانتهت ولا يمكن البناء عليها. ومفاهيم الصياغة الماضية ولت، فلدينا من تراكمات الحقائق ما تصنع الوقائع البائسة، السيادة الوطنية هي الأخرى في بعض العواصم العربية ليس لها من وجود مع التدخلات التي بلغت حداً أعاد المنطقة إلى الحقبة الاستعمارية.
من المهم الإقرار أن لدينا فرصة أخرى لنتعامل مع الواقع، فعلى الدول الفاشلة الإقرار أنها تحتاج مساعدة من الدول الناجحة، في عهد مضى كان جمال عبدالناصر زعيماً مدّ يده لكل شعب أراد الخلاص من الاستعمار، وها نحن أمام ذات اللحظة التي يجب فيها أن تبادر الشعوب في الأوطان الفاشلة لطلب المساعدة لانتشالها من فشلها.
وغزة الغارقة في بحر الدم تتطلب مساهمة من الدول العربية، غير الأهم أن يكون الفلسطينيون أنفسهم مستعدين لتقديم مشروع وطني، فالدول العربية قادرة على الإعمار، لكن بشرط أن تكون هناك أرضية وطنية في غزة، وكذلك في صنعاء وبيروت والخرطوم. فهذه العواصم مدمرة بمفاعيل الصراعات وعلى شعوب دولها أن تقر أولاً بأنها عليها أن تخطو خطوة باتجاه المشروع العربي الجامع.
*كاتب يمني