تعد مسألة الهجرة من المسائل الحساسة في أوروبا، لما لها من تداعيات على المهاجرين وعلى دول الاستقبال، وهي مسألة معقدة تُصرف عليها مليارات اليوروهات لحماية الحدود ومنع تدفق المهاجرين خاصة من البر والبحر، كما تسطر لها قوانين تثير عواصف فكرية في كل وقت أثناء إعدادها حكومياً وحين المصادقة عليها برلمانياً. ولعل آخر حدث وقع في أوروبا من هذا القبيل هو ما جرى مؤخراً في فرنسا حيث نشرت حكومتُها النص النهائي لقانون الهجرة الجديد في الجريدة الرسمية، وقدمت إلى المسؤولين التعليمات بشأن تطبيقه، وذلك بعد رفض المجلس الدستوري أجزاء واسعة منه، لا سيما بعض التدابير التي أُقرت بضغط من اليمين المتشدد، فيما ندد رئيس التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا بحصول «انقلاب من قبل القضاة بدعم من الرئيس» معتبراً أن «قانون الهجرة ولد ميتاً».
بعد شهر على إقرار مشروع القانون في البرلمان، رفض الأعضاء التسعة في المجلس الدستوري، المُناط به البت في مدى دستورية القوانين، غالبية التدابير التي أثارت انتقادات واحتجاجات كبيرة، لا سيما تقليص حصول الأجانب من غير الأوروبيين على إعانات، وتحديد حصص هجرة سنوية، وتشديد شروط لم شمل العائلات. كما خَرجت في الأسابيع الماضية أكثر من 160 مسيرةً في كل أنحاء البلاد احتجاجاً على صدور هذا النص الذي يرونه انتصاراً أيديولوجياً لـ«اليمين المتشدد».
كل هذه الوقائع والأحداث تخبرنا بما وصل إليه موضوع الهجرة من تشديدات داخلية، بما في ذلك إصدار حُزَم قوانين رادعة وسياسات متشددة للغاية. ولعلي هنا أتفق مع كلمات جان ماري غوستاف لو كليزيو، الحائز على جائزة نوبل للآداب، عندما رفع سقف النقاش العام إلى مستوى فلسفي من خلال تنديده بـ«إنكار لا يطاق للإنسانية»، مذكِّراً بأنه هو نفسه كان مهاجراً. وقد عبَّر الأديب العالمي عن غضبه تجاه سياسة أصبحت «وحشاً بلا قلب» متماهياً في ذلك مع شخصيات يسارية كانت قد اعتبرت أن الإجراءات المتخذة من الحكومة «تتعارض مع تلك الروح الفرنسية القائمة على جعل بلادنا أرض وفادة».
والسائد في كل السياسات العمومية الأوروبية في مجال الهجرة هو ثيمة الانغلاق ورفض الآخر، ونرى ذلك في تشديد آليات المراقبة للحدود، وبطرق جد مكلفة، بذريعة محاربة الإرهاب، وفي السياسات الأمنية التي تتضمَّن إشراكَ دول جنوب المتوسط في حماية الحدود عن بُعد (سياسة تصريف الحدود)، مما يؤدي إلى وقوع آلاف القتلى على مشارف أوروبا، فضلاً عن معاقل الاحتجاز في بلدان العبور. وغالباً ما يظل المهاجرون غير الشرعيين في أوروبا محرومين لسنوات من حقوقهم، كما يعملون في الخفاء في مجالات تطبق أشكالاً جديدةً من تكريس العبودية وتجارة الرقيق!
وما يزال التمازج الاجتماعي بعيد المنال، وكثيرة هي الدول الأوروبية التي تخشى شبح الضواحي، حيث يتغلغل الفقر وحيث يولِّد الانغلاقُ في مجالات الإقصاء هويةَ التمرد والانطواء.. وفي وجرائم بعض المجرمين والإرهابيين دليلٌ على ذلك حسب منظِّري هذه المدرسة التي تخشى شبح الضواحي.
*أكاديمي مغربي