رأينا الأسبوع الماضي أبجديات الواقعية السياسية في الولايات المتحدة الأميركية التي لها قواعد ومحددات وتأثيرات متنوعة على السياسة الدولية وعلى النظام العالمي، وذلك بالرجوع إلى واحد من أعمدتها ألا وهو هنري كيسنجر الذي ساهم تكوينه الأكاديمي في إبراز هذه الواقعية من خلال المناصب الحساسة التي تقلدها أكثر من غيره. فقد بدأ مشواره كجامعي تخرج من جامعة هارفارد والتحق بهيئة التدريس فيها، وهناك صقل شخصيتَه الفكرية والعلمية إلى درجة أنه أسس فيها ابتداء من مطلع خمسينيات القرن الماضي الندوةَ الدولية التي تجمع كل صيف العشرات من كبار الشخصيات الأجنبية لحضور برنامج تكويني ومحاضرات دقيقة ونقاشات مطولة، فمكنه ذلك من التواصل مع شخصيات دولية وتكوين شبكة علاقات عابرة للقارات.
شغل كيسنجر منصب مدير برنامج هارفارد للدراسات الدفاعية، وعمل مستشاراً في الشؤون الأمنية لمختلف الوكالات الأميركية، وعُين مساعداً للرئيس ريتشاد نيكسون لشؤون الأمن القومي في ديسمبر 1968، قبل أن يتولى منصب رئيس مجلس الأمن القومي بين عامي 1969و1975، ثم وزير خارجية بين عامي 1973 و1977.
إن تكوينه الجامعي وأستاذيته مشفوعة بذكائه الخارق الذي يشهد له بها كل من درَس معه أو تتلمذ عليه، هي التي ساهمت في مأسسة الواقعية الأميركية وفي تواجده في كل هذه المناصب التي تولاها، وكذلك في الشهرة التي حظيت بها شركته الاستشارية.
واقعية كيسنجر السياسية مكنته من أن يؤسس للدبلوماسية السرية ومن أن يصبح رجل التواصل السري، وكان من نتائج ذلك الانفتاح الأميركي على الصين، وكذلك نهج الانفراج الذي ساعد على تخفيف التوتر بين أميركا والاتحاد السوفييتي وتوقيع اتفاقيات الحد من الأسلحة. لكن هذه الواقعية السياسية ما كانت لتضع دولةً أخرى كند لها، أو أن تكون دائماً محافظةً على حقوق الإنسان والقانون الدولي.. فمصلحة أميركا أولاً، ثم مصلحة الحلفاء ثانياً، والحفاظ على المصالح يتم بكل الطرق والوسائل الظاهرة والباطنة.
ونتذكر أنه عندما أرادت حكومة بوش الابن التدخلَ عسكرياً في العراق عام 2003، رفضت جل الدول الغربية ذلك باسم الشرعية الدولية التي تحمي سيادة الدول. كان ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكولن باول يقومون برحلات مكوكية إلى العواصم الأوروبية لإقناع مسؤوليها، لكن دون جدوى، إلى درجة أن تشيني وصف أوروبا الغربية بـ«أوروبا العجوز» خلافاً لدول أوروبا الشرقية التي كانت مؤيدة للتدخل العسكري. وكان تشيني من خلال كلامه هذا يعني مما يعنيه خطأ غلبة الخزعبلات القانونية والفلسفية الفرنسية والغربية على أولويات المرحلة في العلاقات الدولية التي تفرض ازدواجيةَ المعايير والواقعية الاستراتيجية اللاقانونية بغطاء شبه قانوني وشبه مَرّضي.. فوقع التدخل العسكري الأميركي البريطاني رغم الرفض الفرنسي الأوروبي والمثبطات القانونية في الأمم المتحدة، وبقية القصة معروفة.
*أكاديمي مغربي