لعل أكثر ما فاجأني منذ أن بدأتُ وظيفتي الحالية كمدير للمساعدات الخارجية للصحة العالمية في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية هو حجم حالات الطوارئ التي تطبع عملي. فالمكتب الذي أشرفُ عليه يركز على تخفيف العبء العالمي للوفيات والأمراض وعلى حماية الولايات المتحدة من التهديدات الصحية الخارجية. ومن المفترض أن يخدم عملنا في المقام الأول أهدافاً بعيدة المدى - مثل القضاء على شلل الأطفال وإنهاء التهديد الذي يشكّله فيروس «إتش آي في» والملاريا والسل على الصحة العامة بحلول 2030. ولكن منذ اللحظة التي بدأتُ فيها العمل، أدت المشاكل الطارئة والأكثر إلحاحاً إلى تحويل وجهة الوقت والاهتمام والموارد.
في مايو الماضي، أعلنت منظمة الصحة العالمية عما مجموعه 56 حالة طوارئ صحية عالمية نشطة، وهو الوضع الذي وصفه رئيس برنامج الطوارئ الصحية في منظمة الصحة العالمية مايك رايان بأنه «غير مسبوق». وهذا هو النمط الآن: حالة طوارئ تلو الأخرى، غالباً ما تكونان متداخلتين، مما يؤدي إلى انصراف التركيز عن أهداف الصحة العامة طويلة الأمد. ولا يلوح في الأفق أي مؤشر على أن الأمر سيتحسن. فالنزوح وبعض الأنشطة مثل إزالة الغابات تؤدي إلى زيادة الاتصال بين البشر والحياة البرية، وبالتالي انتقال الأمراض الحيوانية إلى البشر (وعلى سبيل المثال، فإن فيروس إيبولا يُربط بالخفافيش كمصدر محتمل للوباء). كما يشكّل خطر وقوع حوادث في المختبر تتسبب في تفشي المرض مصدر قلق كبيراً مع انتشار المختبرات وتأخر تدابير السلامة.
وفي المتوسط، تم الإبلاغ عن أكثر من 80 حالة عدوى مكتسبة في المختبر سنوياً بين 1979 و2015، العديد منها شمل انتقال العدوى إلى أشخاص أبعد ممن أصيبوا بالفيروس في البداية، كما أن نقص الإبلاغ عن الإصابات الجديدة منتشر وشائع. وفي الأثناء، أدى مجال علم الفيروسات الاصطناعية المتنامي إلى إنتاج علاجات جديدة منقذة للحياة (مثل لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال)، ولكنه سهّل أيضاً على اللاعبين السيئين تحويل الأمراض المعدية إلى أسلحة دمار شامل.
ولكننا نستطيع كسر هذا النمط. ذلك أن الاستثمار طويل المدى في تطوير الجاهزية المحلية للتعامل مع مثل هذه الأحداث -في بناء ما أعتبره نظام مناعة عالمياً- يمكنه التقليل من التهديد الذي تشكّله هذه الأزمات، بل وحتى التقليل من الاعتماد على المساعدات الخارجية من أجل التغلب عليها. فمع ازدياد المخاطر، تزداد قدرتنا على التغلب عليها. ومن خلال الاستراتيجية الصحيحة، نستطيع استخدام الحوادث المؤسفة والصدمات التي نواجهها لتعزيز قدرتنا على التكيف. الأمر هنا لا يتعلق بتطوير المرونة (القدرة على التعافي من الأزمات) ولا بالقوة (القدرة على مقاومة الأزمات)، وإنما يتعلق بتطوير ما سمّاه الكاتب نسيم نيكولاس طالب مكافحة الهشاشة – أي القدرة على أن تصبح أقوى بعد الأزمة.
ويقدِّم جهاز المناعة في أجسامنا مثالاً جيداً: فهو يكتشف مسبّبات الأمراض ويُبطل مفعولها بسرعة قبل أن تتسبب في أضرار كارثية، وفي الأثناء يزداد قوة في كل مرة يصاب بها. وعلى نحو مماثل، سيتمكن نظام مناعة عالمي من اكتشاف التهديدات الصحية وتحييدها بسرعة قبل أن تتسبب في أضرار كارثية للعالم، وبالتوازي مع ذلك سيتطوّر ويتقوى في كل مرة يحدث فيها ذلك.
والأكيد أن خط الدفاع الأول ضد الخطر هو الوقاية، ولكن الوقاية وحدها لا تكفي.
وفضلاً عن ذلك، يجب بناء نظام مناعة عالمي من أجل السرعة، السرعة في اكتشاف أن نمط المرض قد يكون غريباً وخطيراً، والسرعة في التشخيص، والسرعة في تنبيه مسؤولي الصحة العامة وتتبع مسار التعرض للفيروس، والسرعة في إيصال العلاج للمرضى والإجراءات الوقائية إلى الأصحاء.
وتشير تجربة فيروس إيبولا في أفريقيا إلى أن بناء نظام مناعة عالمي فعّال أمرٌ ممكنٌ، ولكن بناءه يتطلب التزاماً جماعياً مستمراً بالاستثمار في البشر والقدرات اللازمة في الخطوط الأمامية للرعاية الصحية عبر العالم. فعلى الرغم من انقساماتنا السياسية والجغرافية، فإن الجنس البشري حقّق بدايةً قويةً بالفعل.
ومما لا شك فيه أن أمامنا طريقاً طويلاً لنقطعه لأن الكوارث الصحية لا تتوقف. وبعد بضعة أشهر من عملي في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وجدتُ أن «مكتب الصحة العالمي» في الوكالة يحتاج إلى قسم للطوارئ، على غرار ما هو موجود في المستشفيات - فريق مخصص للفرز والاستجابة السريعة. نسمّيه نظام الخدمات الطبية الطارئة في الصحة العالمية. واليوم بتنا في واشنطن مستعدين للتحرك بسرعة أكبر عندما يقتضي الأمر ذلك أيضاً.
وقد بدأنا نرى ما يمكن أن تحققه سرعة نظام مناعة عالمي. ففي أبريل 2022، أُبلغت بتفشٍّ جديد لإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، في مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة وتقع على نهر الكونغو. رجل يبلغ 31 عاماً كان يعاني من الحمى المتصاعدة لمدة أسبوع وصل إلى العيادة وتوفي بعد ذلك بفترة وجيزة. غير أنه في هذه المرة، كان المسؤول الطبي المناوب قد تلقى ما يكفي من التدريب للتعرف على العلامات المحتملة للإيبولا. وكانت لدى الفريق الطبي الوسائل والمعدات اللازمة لحماية أنفسهم بالإضافة إلى معدات المختبرات المناسبة، فقاموا بالتشخيص وأبلغوا سلطات الصحة العامة الوطنية بعد ظهر ذلك اليوم نفسه.
وفي غضون 48 ساعة، كان لديهم أشخاصٌ في الموقع لتحديد المخالطين، وتم شحن لقاحات مطوَّرة حديثاً للأشخاص الذين تعرضوا للفيروس. والنتيجة: موت خمسة أشخاص فقط. ذلك أن المرض لم ينتشر خارج المجتمع المحلي.
وخلاصة القول أن الاستجابة التي كانت تستغرق في السابق سنوات وتكلّف مئات الملايين من الدولارات أصبحت الآن تستغرق بضعة أيام فقط وبجزء صغير من التكلفة، وهذا هو شكل مكافحة الهشاشة. ولذلك، لم يكن لدى فريقي شيء ليقوم به، ولم تكن البلاد في حاجة إلى أي مساعدة طارئة.
* المدير المساعد للصحة العامة في الوكالة الأميركية للصحة العامة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»