الإرث الكيسنجري ومحاورة الخصوم
فور الإعلان عن وفاته، قال الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش: «إن الولايات المتحدة فقدت أحد أصواتها الأكثر تميزاً وموثوقية في الشؤون الخارجية»، مضيفاً أن صعود كسينجر بوصفه لاجئاً ألمانياً إلى قمة صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية «يدل على عظمته بقدر ما يعكس عظمة أميركا».
في التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي استحضرت دول العالم الإرث الدبلوماسي لهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، الذي توفي عن مائة عام. ويعتبر كيسنجر سياسياً ودبلوماسياً أميركياً بارزاً، وهو أحد أشهر وزراء الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة، إذ عمل كوزير للخارجية في الفترة من عام 1973 إلى عام 1977، خلال إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون ثم الرئيس جيرالد فورد.
وتُعرف السياسة الخارجية التي تبناها كيسنجر بـ«الكيسنجرية»، وهو تعبير يشير إلى نهجه في العلاقات الدولية والدبلوماسية. كانت الكيسنجرية تعتمد على مبادئ أساسية عدة، بما في ذلك التوازن والتفاوض، حيث كان كيسنجر يؤمن بأهمية إيجاد التوازن في العلاقات الدولية وتجنب الصراعات الكبيرة، وقد عمل على تعزيز التفاوض والحوار كوسيلة لحل النزاعات وتحقيق السلام. واشتهر كيسنجر بسعية لإقامة حوار مع الدول التي كانت في صراع مع الولايات المتحدة، إذ كان يؤمن بأن الحوار المباشر يمكن أن يسهم في تخفيف التوترات وتحقيق الاستقرار.
كما كان كيسنجر يؤمن بأن الدبلوماسية يجب أن تستند إلى الواقعية والتركيز على المصالح الوطنية للولايات المتحدة، وكان يعتقد أنه تجب معالجة القضايا الدولية بناءً على التحليل الواقعي للقوى والمصالح المعنية. وقد تركت الكيسنجرية بصمةً قويةً على السياسة الخارجية الأميركية، حيث استمر تأثيرها لسنوات بعد توليه منصب وزير الخارجية، واستمر كيسنجر نفسه في العمل في المجال الدبلوماسي والتحليل السياسي بعد تركه الحكومة، حيث أصبح شخصية مؤثرة في المجتمع الدولي ومستشاراً لرؤساء وحكومات عدة. ولد هنري كيسنجر في 27 مايو 1923 في فورتسبرغ بألمانيا، وهاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1938 هرباً من النازية.
أكمل تعليمه الجامعي في جامعة هارفارد حيث حصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية. وعُرف كيسنجر بالأكاديمي البارز والمفكر السياسي قبل أن يبدأ حياته السياسية، وعمل كأستاذ جامعي وكتب كتباً مؤثرة في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وأسهمت هذه الأعمال في بناء سمعته وجعلته مرجعيةً في مجاله. في عام 1969 تولى كيسنجر منصبَ مستشار للأمن القومي في الولايات المتحدة في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، وفي عام 1973 تم تعيينه وزيراً للخارجية، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1977 أثناء إدارة الرئيس جيرالد فورد. خلال فترة توليه وزارة الخارجية، شهد العالم تحولات هامة في الساحة الدولية، وأثناء ذلك قام بدور هام في إدارة السياسة الخارجية الأميركية خلال حرب فيتنام وعمل على تحسين العلاقات مع الصين وخاض مفاوضاتٍ استراتيجيةً مع الاتحاد السوفييتي.
واحتلت العلاقات مع الصين مكانةً بارزة في سياسة كيسنجر، حيث قام بجهود دبلوماسية حاسمة لإحلال السلام بين واشنطن وبكين، وهو ما أدى في النهاية إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين الجانبين في عام 1979. وبعد مغادرته المنصب، استمر كيسنجر في العمل كمستشار ومؤلف ومتحدث عام، وكان له تأثير كبير في المجتمع الدولي والسياسة العالمية، حيث كانت تُطلب آراؤه ونصائحه في القضايا الدولية المعاصرة.
وتُعتبر الكيسنجرية بمثابة إرث دبلوماسي، إذ تمثل مفهوماً ونهجاً في العلاقات الدولية يستمر في التأثير على السياسة الخارجية للولايات المتحدة والعديد من الدول حتى اليوم. كثير من الخبراء والمحللين الدبلوماسيين يُقدِّرون عالياً إسهامات كيسنجر في تشكيل النظام العالمي وتعاطيه مع التحديات الدولية.
*كاتبة وروائية سعودية