عولمة أكثر.. بمزيد من الجدران!
أثبت سقوطُ جدار برلين أنه كان واحداً من أكبر الإشارات الخاطئة في التاريخ، إذ تبين أن العالم الذي نشأ عقب الحرب الباردة كان عالماً من الجدران المحصّنة بدلاً من الحدود المفتوحة. وإذا كان لعبارة «اهدم هذا الجدار» (التي قالها الرئيس الأميركي رونالد ريغن للزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في أواخر الحرب الباردة) صدى رائعاً في مكان وزمان معينين، فإن «إقامة هذا الجدار وجعله منيعاً» قد يكون الطريق إلى المستقبل، رغم ما قد يثيره ذلك من استياء بين أشد أنصار العولمة حماساً.
الأستاذة إليزابيث فاليت من جامعة كيبيك أحصت 74 جداراً حدودياً عبر العالم، أي ستة أضعاف العدد الذي كان موجوداً في نهاية الحرب الباردة، تمتد على مسافة تفوق 20 ألف ميل. وفي كتابه الجديد «العصر المحروس: التحصينات في القرن الحادي والعشرين»، يشير ديفيد بيتز، الأستاذ في كلية كينجز في لندن، إلى أن الجدران ليست سوى جزء من كتلة من التحصينات التي تبنى حالياً عبر الكوكب. فسفارة الولايات المتحدة الجديدة في جنوب لندن، مثلاً، تبدو أشبه بقلعة من عصر ما بعد الحداثة: إذ ينتصب المكعبُ الزجاجي البالغ ارتفاعه 200 قدم على تلة، بعيداً عن أقرب شارع بأكثر من 100 قدم، ومحمياً بـ«بركة» وشبكة من الخنادق الخفية.
التحصينات الحدودية تهدف لمنع المهاجرين غير الشرعيين، فحالياً تقوم الولايات المتحدة ببناء سياج حدودي بطول 20 ميلاً على ضفة وادي ريو غراندي بولاية تكساس على الرغم من عداء جو بايدن المعلَن لجدار ترامب. كما يؤدي تهديد الهجمات الإرهابية الدائم إلى بناء تحصينات في قلب المدن الكبرى.
أما الشيء الآخر الذي يُدخل التحصينات في حياة الناس اليومية، فهو الخوف من الفوضى. ففي الولايات المتحدة، مثلا، يعيش نحو 17 مليون أميركي في إقامات مسوّرة. والعالم الناشئ ينقسم إلى عالم من الأحياء الفقيرة وعالم من المدن المسوّرة.. لقّبتها الكتيبات بـ«القرية الأمنية». الواقع أن هناك مجموعتين مختلفتين اختلافاً تاماً تعترضان على التحصينات: أصحاب نظرة مثالية وأصحاب نظرة واقعية. فالمثاليون يحاججون بأن السبيل لتفادي مشاعر السخط والاستياء هو بناء الجسور بدلاً من الجدران.
ولكن حجة أصحاب النظرة المثالية لا تحتاج لكثير من التفكير أو الاهتمام . انظر مثلاً إلى الأوروبيين، الذين يبنون الجدران للسيطرة على تدفق المهاجرين، خاصة منذ ارتفاع أعداد المهاجرين في 2016، ثم إنه لا يوجد تناقض بين بناء الجدران وبناء الجسور: ذلك أن الناس يكونون أكثر ميلاً للدخول في مفاوضات إذا شعروا بالأمان. والواقع أن حجة الواقعيين أكثر جدية. فالواقعيون محقّون في الإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على الجدران فقط، بل ينبغي ربط الجدران باستراتيجيات أخرى، من الدبلوماسية إلى الضربات الدفاعية. ولكن منطق الموقف الواقعي يمكن أن يشير أيضا إلى تشييد جدران أفضل وتزويدها بحراس على نحو أفضل.
والحال أن الجدران تؤدي الكثير من الوظائف في وقت واحد حتى تفكر في التخلي عنها بدلاً من تكميلها وتعزيزها: فهي ليست حواجز دفاعية ضد القوات المعادية أو المهاجرين غير الشرعيين فحسب، ولكنها أيضاً قواعد آمنة للعمليات الهجومية. التحدي الأكبر في عصرنا ليس هو التخلص من الجدران، وإنما تحديد الطريقة الفضلى لاستخدام الجدران والجسور معاً حتى نتمكن من تعظيم إيجابيات العولمة مع ضرورة توخي الحيطة والحذر دائماً، تحسباً لسلبياتها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»
*كاتب وصحافي بريطاني