خلايا غير بشرية
ما الذي يجعل الإنسان كريماً أو بخيلاً، جريئاً أو جباناً، معتدياً أو مسالماً؟.. ما الذي يجعله ودوداً أو كريهاً، واعياً أو محدود الوعى؟.. تقع هذه التساؤلات وغيرها ضمن ما يمكن وصفه بأنه أصعب سؤال في العالم: كيف يعمل عقل الإنسان؟
وكيف تُدار العلاقة بين العقل والجسِد؟ قال لي الدكتور أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في العلوم حين ناقشته بهذا الصدد قبل سنوات: بعض العلماء يدرسون ما إذا كانت صفات الإنسان تتعلق بالقيم والبيئة الاجتماعية وأساليب التربية فقط، أم أن هناك في خلايا الإنسان ما يقوم بصياغة حالته النفسية ومواقفه الاجتماعية على أساس بيولوجي مستقل.
وبعضهم يدرس ما يمكن تسميتُه «المين» الذي يبحث في الجوانب القيمية البيولوجية للإنسان، وكلمة «المين» على غرار «الجين»، لكن «المين» يدرس الأساس النفسي وليس المادي لبيولوجيا الإنسان. حسب تقرير مثير لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي».. قال علماء: إن التكوين البيولوجي للإنسان لا يتشكل من الخلايا البشرية فحسب، بل يتشكل أيضاً من خلايا غير بشرية. ومن المذهل أن نسبة الخلايا البشرية في تكوين جسم الإنسان لا تزيد على (43%)، بينما أغلب جسم الإنسان يتشكل من خلايا غير بشرية، وهي كائنات ميكروبية متناهية الصغر. وهكذا فإن لدى الإنسان (2) جينوم، الأول هو الجينوم البشري، والثاني هو الجينوم الميكروبي!
هكذا أصبحت الأمور أكثر تعقيداً، وإذا ما توصل العلماء لنتائج مهمة بشأن الجوانب النفسية في التكوين البيولوجي للإنسان.. ستصبح المعادلة كالتالي: خلايا بشرية + خلايا ميكروبية+ (1) جينوم بشري + (1) جينوم ميكروبي + (1) مين! سيستمر المشهد أكثر إثارة وتعقيداً، إذا ما حاول المرء أن يبحث في بيولوجيا المخ، فالمخ الذي يحتوي على (88) مليار خلية عصبية، وتتصل كل خلية فيها بـ(10,000) خلية أخرى.. يحتاج إلى جهد أسطوري لفهم كيفية عمل هذه الشبكة العملاقة، ذات الخلايا المليارية المتصلة بخلايا تريليونية.. في بناء ضخم يصعب إدراكه أو سبْر أغواره.
إن تعقيدات النفس البشرية المركبّة والغامضة.. والمضطربة والمتناقضة، والخلاقّة والخائفة، البنّاءة والمدمرة.. تجعل من دراسة العلاقة بين العقل والجسد، وبين الوعى والخليّة.. أمراً يقارب المستحيل. السؤال الفلسفي الذي يطرح نفسه الآن.. إذا ما كان للجانب البيولوجي للإنسان دور كبير في الجانب السيكولوجي والسوسيولوجي.. ألا يُعد الإنسان بذلك كائناً غير مسؤول؟ فهو منعدم الإرادة إزاء خلاياه البشرية وغير البشرية وإزاء أرخبيل الخلايا العصبية اللامتناهي، وأسلاك التوصيل الأعقد مليارات المرات من شبكة كهرباء نيويورك.
في تقديري أن الإجابة هي لا: فالإنسان يظل على الرغم من ذلك كله كائناً مسؤولاً، ويجب أن يحاسب على جميع أفعاله مادام فيه قلب ينبض وعقل يعمل. يمكن لرجال الدين التباحث فيما إذا كان الإنسان مسيّراً أو مخيّراً.. ويمكن للفلاسفة الجدل بشأن ماهية الإنسان.. وتقريره لمصيره. لكن الإجابة لا يجب أن تؤثر كثيراً في الأمر.. فالإنسان مسؤول والقانون ملزِم، والمجتمع حاكم وحارس. تبقي الرسالة الأساسية في كون المكون الميكروبي أكبر في جسم الإنسان من المكون البشري في ضرورة أن ينادي المرء نفسه كل صباح: عزيزي الإنسان.. تواضع من فضلك.
*كاتب مصري