محمود درويش.. الحالِمُ بالسلام
«سلامُ لأرضٍ خُلقت للسلام.. وما رأت يوماً سلاماً.. ما دُمتُ أحلمُ فأنا حيٌّ، لأن الموتَى لا يحلمون». ليس هذا مقطعاً شعرياً عابراً أو غيرَ مقصودٍ معناه، بل تعبير عن الهم الأساسي للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي حلّت الذكرى الخامسة عشرة لرحيله قبل أيام. لم يحظ حلم درويش بالسلام، ومشاركته أيضاً في العمل من أجله، بعنايةٍ كافية بعد، ربما لأن الظروف التي مرت بها قضية فلسطين في مراحلها المتتالية وضعت مسألةَ المقاومة في صدارة الاهتمامات. غير أنه لا تعارض بين السلام كهدفٍ نبيل والمقاومة بوصفها إحدى وسائل الوصول إليه.
ولهذا كان السلام بوصلة درويش في كل مراحله، سواء قبل مغادرة وطنه عام 1970، أو قبل الخروج من بيروت عام 1982، وقد بقي كذلك حتى رحيله في عام 2008. وأسهم إيمانُه بالسلام في إعطاء قضية فلسطين بُعدَها الثقافي الإبداعي الإنساني، ونقَلها إلى مصاف القضايا الكبرى في عالمٍ يُبحثُ عن سلامٍ حقيقي في كل أرجائه.
نجدُ أول تعبيرٍ سياسي، وليس شعرياً، عن إيمان درويش بالسلام في مشاركته في كتابة خطاب ياسر عرفات الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974. وهو صاحب عبارة «لا تُسقِطوا غصنَ الزيتون من يدي» التي اختُتم بها ذلك الخطاب. وقد احتل الزيتون، الذي يُعد أحدَ رموز السلام في العالَم منذ القدم، مساحةً مهمةً في شعر درويش منذ ديوانه الأول الذي كان عنوانه «أوراق الزيتون» والصادر عام 1964.
ولأن العصفورَ يُعتبر رمزاً آخر للسلام، فقد كان عنوانُ قصيدةٍ نشرها في عام 1966 («العصافير تموت في الجليل»). وفي تلك القصيدة تركيبُ شعري مُبدع يَجمعُ بين الوطن والحبيبة الأولى «ريتا». ويعرف مَن درسوا سيرة حياة درويش أنها كانت عضواً معه في «الحزب الشيوعي الإسرائيلي» الذي تبنى خط الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في تلك المرحلة. فمَن يؤمنُ بالسلام يَعرف أن الأديان كلها لله. ولهذا كان بين أصدقائه يهودٌ آمنوا مثله بالسلام. ولا يخفى مغزى رسالته إلى يهود العالم في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1988، عندما نشر مقالتَه المعنونة «سؤال إلى الضمير اليهودي» في صحيفة «لوموند».
ولم يكن تحفظه على اتفاق أوسلو في عام 1993 إلا حرصاً على التوصل إلى صيغةٍ تُتيح بناءَ سلامٍ مستدام. فقد لاحظ مثل آخرين، بينهم مسؤولون في دولٍ عربية حينذاك، وجود ثغراتٍ يَسهلُ النفاذ منها لتقويض الاتفاق وإجهاض الحلم، وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك. ورغم تحفظه على الاتفاق، فقد كان هو مَن كتب خطاب عرفات الذي ألقاه في حفل تسلمه جائزة نوبل للسلام عام 1994 مع اسحق رابين وشمعون بيريز.
مازال درويش حاضراً بعد 15 عاماً على رحيله، ولعله يتألمُ في مرقده فوق ربوةٍ في «رام الله» بسبب ما بلغه صراعٌ حَلُم بتسويته وببناء سلام في الأرض التي قال عنها إنها «ما رأت يوماً سلاماً»!
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية