فقه التوازنات الانتقالية
ما هو الواقع الإقليمي من منظور النظام العالمي الجديد؟ وهل هو جديد بمقاييس الأدوات أو فقه التزاحم بأدوات الاقتصاد السياسي، إم أن القصد منه هو تراجع مكانة الدور الأميركي وصعود آخر صيني ممثلاً بمنظومة دول البريكس؟ والسؤال الأكثر إلحاحاً يتمثل في قابلية التحول في مفهوم الأقطاب للجغرافيات الإقليمية (شرق آسيا/ الشرق الأدنى/ الشرق الأوسط/ آسيا الوسطى/ أوروبا/ أفريقيا خماسية الأبعاد)، فذلك هو التحدي الحقيقي والحاكم لمناظير الأقطاب.
تحديات تلك الأقاليم ستتمثل في قدرتها على اجتراح فقه سياسي انتقالي أكثر تكافلاً فيما بينها، ويعد مشروع التصالح التاريخي بين اليابان وكوريا الجنوبية أحد تلك النماذج، وما لانعكاسات تحقق ذلك على استقرار الإقليم والتحييد النسبي لوتيرة التزاحم الصيني الأميركي. أما ثانياً، فهو نموذج التحول من الاقتصاد الريعي خليجياً بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتأثير ذلك على فرض حالة من استقرارٍ متنامٍ ذي إشعاع يتعدى جغرافيته المتصلة. في حين تتعمق حالة عدم الاستقرار في الشرق الأدنى نتيجة أدوات التزاحم التقليدية (الهند/ باكستان/ أفغانستان/ إيران)، واتساع حالة عدم الاستقرار في أفريقيا لتتصل شرقاً وغرباً، وليس فقط لتصاعد وتيرة مسلسل الانقلابات والحرب الأهلية السودانية، بل نتيجة تحديات هي أفريقية- أفريقية أولاً.
أما في أوروبا، فقد أثبتت الأزمة الأوكرانية عجز هذا الإقليم عن لعب دور أمني حقيقي ضامن لأمنه. وآسيا الوسطى مرشحة لأن تغدو مسرحاً جديداً لانتقال حالة عدم الاستقرار إنْ هي تخلت عن تحديد ضامنات استقرارها. لذلك سوف يتوجب على الأقاليم المستقرة وخصوصاً جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط بارتكازه على ثقل النموذج الخليجي وبلوغ قيمة اقتصاداته المشتركة لما يتجاوز تريليوني دولار، إدراك ضرورة تخليق تكافل مشترك مع أوروبا غرباً وشركاء شرق آسيويين مثل اليابان وكوريا الجنوبية بهدف تمكين فقه التكافل الاستراتيجي.
فذلك قد يغدو المحفز الأقدر على تحييد حدة الاستقطابات القطبية وتخليق الاستقرار المستدام، وقابليته في حلحلة ملفات مستعصية (دعم حالة الانتقال في العراق/ الأزمة السورية بكل أبعادها/ أمن دول حوض المتوسط/ إعادة الاستقرار في شمال أفريقيا). ذلك الفقه سيستوجب تعاون الأقطاب مع القوى الإقليمية، إلا أنه من المجحف في حق الإرادات الإقليمية أن تؤخذ بجريرة عجز الأقطاب في فهم حتمية ذلك الانتقال والتكافل مع مشاريعها بدل الإمعان في تغليب إدارة المصالح بتوظيف الهيمنة أو التبعية السياسية والاقتصادية.
الاتجاه إلى الشرق من المنظور الاستراتيجي الإقليمي لمنظومة الثقل العربي الحديث هو أمر طبيعي لاتصاله بمصالحه الاقتصادية، وهي مرشحة للنمو في كل أبعاد تلك المصالح، وكذلك تأثيراتها في الواقع السياسي نتيجة رفض دول الإقليم لنموذج استدامة الأزمات والاتجاه لتصفيرها (الانفتاح على جميع القوى الإقليمية الرئيسية تركيا وإيران/ المواثيق الإبراهيمية/ نمو اقتصادي مستقطب لاهتمام رؤوس الأموال). وسوف يمثل ذلك أسساً لقدرة هذا الفقه على تأسيس حالة أخرى متجاوزة ما يُبشر به من نظام عالمي جديد إلى ولادة واقع إرادة الأقاليم السياسية.
*كاتب بحريني