الموت وما وراء الطور الفيزيقي
يصطدم الإنسان بالعديد من الأحداث القاسية والمؤلمة في حياته منذ نعومة أظفاره، كما تتنوع ردود فعله إزاء كل منها، ويبقى «الموت» أصعبها على قلبه. ورغم الصورة المفزعة حول الموت، والتي تعبر عن الانتقال المرحلي من الواقع الفيزيقي إلى ما وراءه، فإن «الموت» يكاد يشكل في أحد جوانبه «هماً دائماً» وقلقاً يقظاً يذكر الإنسان بحتميته كلما اقترب من نسيانه، لا سيما أن الذات تظل محاطةً بشيء من الرهبة إزاء كل ما جهلت معالمه وحيثياته الدقيقة.
وفي صورة مواربة، فقد تخطى الإنسانُ تضاربَ المشاعر تجاه الموت، واتخذ سبيله في اعتماده موقفاً أو قراراً شريفاً أو خلاصاً من الضرورات التي تمس كرامة الإنسان وثبات مبادئه، إذ نجد فلاسفةً ومفكرين ومؤمنين صالحين انتظروا الموتَ بهدوء حين خيِّروا بينه وبين أن يبدلوا قناعاتِهم الفكرية.
وفي حين أن صورةَ الموت تطورت وتبدل الموقف الإنساني إزاءها على مر العصور، فإنها ما تزال في الكثير من جوانبها تمثل حقيقة غامضة، اقتصر علمها على الخالق سبحانه وتعالى، فهي ابتلاء وأداة اختبار لقوله تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا». كما يبقى الموت في وقوعه على كافة الكائنات الحية عاملاً فلسفياً قوياً ومحتدماً مع الطبيعة الإنسانية. فالإنسان يشهد خلال حياته العديدَ من الأشخاص الذين حازوا أعلى المرتبة العلمية والعملية، لكن سرعان ما تتحول مكتسباتهم المادية إلى نوع من العدم واللاجدوى.. مما يؤكد حقيقة الضعف الإنساني «المستدام».
ويتعين التنبيه إلى أن ذلك لا يقلل من قيمة الحياة أو المكانة المرتبطة بها، والتي يمكن ملاحظتها في الموقف الحازم الذي أبداه الإسلام من هدرها والإساءة لقيمتها من خلال سلوكيات مثل الانتحار أو تناول المخدرات.
ومن هنا نجد أن الفلسفة الإسلامية إزاء الموت ركزت على شحذ همة الإنسان من أجل اختيار السلوك الصحيح وانتقائه نوعيته، بحيث ينجح في اختيار ما يمكنه مصاحبته في رحلته لما بعد الحياة. وقد وردت في القرآن الكريم آيات دالة على ذلك، مثل قوله تعالى: «حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت».. فالموت هو نفاد الفرصة الممنوحة للإنسان بغية بناء «رصيد العمل الصالح»، ولا مجال بعده للعودة، مما يعني أن الإنسان لا بد من أن يبذل قصارى جهده في شتى سبل الخير والصلاح طالما هو على قيد الحياة. وفي قوله تعالى: «وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ».
إن الرسائل الربانية العظيمة دائماً تحمل ما يتجاوز الصورة السطحية للأمور، فعلى أهمية الوعظ والتذكير المرتبط بالموت، وعلى فائدة استحضار تفاصيله وقسوته، فهناك الكثير من الأفكار الهامة التي يتعين تأصيلها في الحديث عن الموت، لذا فهو في أقل اعتبار محرك للحياة، ودافع للصلاح، وقارب نجاة، ومعيار إيمان لقياس الصبر الذي يقدمه كل منّا على ذاته حتى يلقى الله عز وجل، والصبر الذي يكابده عند فقدان مَن يحب. وبالتالي فإن تحويل معنى الموت من الانقطاع والانفصال التام، إلى معنى الجسر الممتد ومحطة العبور.. هو تحويل في غاية الأهمية، لما له من انعكاسات على توجه السلوك الإنساني.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة