السلام العالمي.. مهمةٌ إماراتية
كم من فلاسفةٍ ومفكرين، وسياسيين أيضاً، حلموا بتحقيق السلام بين الشعوب والأمم منذ فجر التاريخ المُدَّون! وكم من معاهداتٍ واتفاقاتٍ وُقِعت على مر هذا التاريخ لبناء السلام بين طرفين متحاربين أو أكثر!
وكم من مواثيق أُصدرت في العصر الحديث للحث على حل الصراعات ونبذ العنف! غير أنه قليلاً ما أُدرِكَ أن تحقيق السلام لا يتطلب عملاً سياسياً وديبلوماسياً فقط، بل يستلزم وجود أساسٍ ثقافيٍ قوي يُعلي قيمته ويدفع إلى العمل لتحقيقه عن اقتناع.
وكان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي يعتبره كثير من الدارسين عمدةَ مفكري عصر التنوير، أكثر من أدرك أن الأساس الثقافي للسلام لا تقل أهميته، بل قد تزيد، عن العمل الديبلوماسي الذي يتوقف نجاحه في بناء سلامٍ دائم وليس مؤقتاً على عوامل في مقدمتها وجود هذا الأساس.
وكيف لا، ما دامت الصراعات والحروب تنشب مدفوعةً بأطماعٍ وعداواتٍ وضغائن. وأينما توجد هذه الدوافع، وتفعل فعلها، يصبح إبطال مفعولها أو تقليل أثره ضرورةً لا غنى عنها لتسوية الصراعات والحروب التي تنتج عنها، ومن ثم تحقيق السلام الذي حلم به الحالمون.
ولا سبيل إلى مهمةٍ جليلةٍ من هذا النوع بدون إعداد العُدة لها. والثقافة هي عُدة العمل من أجل سلامٍ حقيقي ومُستدام. فالعنف يولد في العقل أولاً، قبل أن يتحول إلى فعلٍ يؤدي إلى قتل وتخريب. لكن إدراك كانط مسألة الأساس الثقافي للسلام لم يكن كاملاً. وهذا طبيعي في زمنه، فقد نشر كتابَه، الذي ترجمه من الألمانية الدكتور عثمان أمين تحت عنوان «السلام الدائم.. مخطط فلسفي» عام 1795. غير أن أهمية إسهامه في هذا المجال تعود إلى أنه أول من أضفى بُعداً أخلاقياً على السلام فرفع مرتبته وجعله قيمةً كبيرةً وليس مجرد هدف سياسي. فالسلام لا يكون دائماً إذا ارتبط بمؤثراتٍ سياسية فقط. في هذه الحالة قد يكونُ سلاماً مؤقتاً لا ضمان لاستمراره.
ولكي يكون دائماً لابد أن يرتكز، عند كانط، على قيمٍ أخلاقية ونيةٍ صادقة، ومن ثم على أساسٍ ثقافي بشكل ما. ولأن تصور كانط هذا كان مبكراً جداً، فهو لا يرقى إلى الرؤية التي بلورتها دولة الإمارات العربية، بالتعاون مع بريطانيا، وتحولت إلى مبادرةٍ تهدف إلى معالجة الاختلالات الثقافية التي تَحُول دون تحقيق السلم والأمن الدوليين المنصوص عليهما في ميثاق الأمم المتحدة. وقُدمت هذه المبادرة في صورة مشروعٍ إلى مجلس الأمن، فأقره بإجماع الأعضاء، وصار قراراً يحمل الرقم 2686 للعام 2023.
مهمةُ جديدةُ، إذن، تضطلع بها دولة الإمارات في مشروعها الكبير من أجل مستقبلٍ أفضل للبشرية كلها. وهي ليست جديدةً تماماً في الواقع، بل يجوز القول إنها تتويجٌ لمهماتٍ حملتها على عاتقها سعياً إلى التسامح والحوار والأخوّة الإنسانية والتعايش بين الحضارات والثقافات والأديان.
*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية