ما هي الحدود؟ في كتاب «حافة السهل.. كيف تصنع الحدودُ عالَمنا وتهدمه»، يشير جيمس كروفورد إلى عدد من النظريات. فالحدود، وفقاً للمؤلف، عبارة عن «منابع للذاكرة». كما أنها يمكن أن تكون «قصة هوية» أو «مكاناً للخوف والتكريم في آن معاً». وأحياناً، يصف كروفورد الحدودَ على نحو جغرافي وأخلاقي باعتبارها «جرحاً.. في المشهد». وفي أحيان كثيرة، توجد الحدود في عالم المجاز والاستعارة إذ ترسم «الرحلة من الصبا إلى الرجولة»، و«الحد.. بين العقل والجنون». وعلى كل حال، فإن الحدود «ليست مجرد خط أو فاصل أو جدار أو حافة، بل فكرة أولاً وقبل كل شيء». وبالنسبة لكروفورد، وهو كاتب وصحافي اسكتلندي، فإن الحدود تكاد تكون دائماً فكرة سيئة. الكتاب يجمع بين التاريخ وأدب الرحلة والريبورتاج ليولد تحقيقاً طموحاً في «هذه الشبكة الواسعة من الخطوط الممتدة عبر أنحاء الأرض». فقد زار كروفورد البقايا الحجرية لـ«الجدار الأنطوني»، في ما يسمى اليوم اسكتلندا، والذي كان يشكّل الحدودَ الشمالية للإمبراطورية الرومانية. ومشى في منطقة مستجمعات المياه المتغيرة بجبال الألب بين إيطاليا والنمسا. وكتب عن وطن شعب الـ«سامي» الذي لا حدود له، وهم السكان الأصليون لشبه الجزيرة الاسكندنافية. لكن الكتاب يعود في أحيان كثيرة إلى مشاهد وحشية وقاسية وحيوات ممزقة على الحدود المعسكرة لعالم اليوم. وفي هذا السياق، نقل كروفورد عن ناشط بيئي قوله: «حيثما وُجدت الحدود، فهناك تجد أكبر تركز للظلم».
أحد هذه الأماكن هو مدينة مليلية، وهي منطقة تابعة لإسبانيا تتمتع بالحكم الذاتي ومقتطعة من الساحل الشمالي الشرقي للمغرب. ويقول كروفورد إن مليلية تمثّل واحداً من معبرين بريين اثنين فقط بين أوروبا وأفريقيا. حدود المدينة تتبع «خطاًّ يمثّل فرقاً في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بثمانية أضعاف». وداخل خيام حول مليلية، ينتظر مهاجرون ويستعدون لاختراق طبقات من الحواجز المميتة التي تشمل سياجاتٍ وأسلاكاً شائكةً وخنادقَ وحرسَ حدود مسلحين، وبعدها توجد أوروبا، على شكل ملاعب غولف، ومركز احتجاز، وفرصة لطلب اللجوء بالنسبة لأولئك الذين تمكنوا من النجاة والبقاء على قيد الحياة أثناء عملية العبور. وبسبب الخطر الهائل والاحتمال الكبير لإعادتهم من قبل «الشرطة العسكرية المدججة بالهراوات ودروع مكافحة الشغب»، يهاجم الراغبون في الهجرة محيط مليلية في مجموعات، تتألف أحياناً من المئات في المرة الواحدة. فيتسلقون السياجات بدون أحذية، للصعود بخفة وسرعة. أما «المرحلة الأخيرة»، يكتب كروفورد، فـ«هي عبارة عن لعبة أرقام، ويانصيب جسدية وحشية، إذ يقفزون إلى الأرض آملين أن يكون هناك الكثير منهم، عدد أكبر مما تستطيع الشرطة احتواءه». ويجد كروفورد منطقةً حدوديةً خطيرةً أخرى في متنزه صبار الأنابيب الوطني في ولاية أريزونا الأميركية، وهو عبارة عن محمية طبيعية تشمل جزءاً من الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. في صيف عام 2019، بدأت إدارة ترامب تجريف النظام البيئي الهش لإفساح الطريق أمام تشييد سياج فولاذي بارتفاع ثلاثة طوابق تقريباً. لكن حينما وصل جو بايدن إلى الرئاسة بعد عام ونصف العام على ذلك، توقفت أشغال الإنشاء، ما خلّف «أطلالا على الفور». ويكتب كروفورد عن جهود فنانين للحفاظ على النماذج الأولية للجدار الحدودي باعتبارها «فناًّ أرضياً تاريخياً»، وشاهداً على «جنون» العصر الترامبي. وإلى ذلك، يتعقب كروفورد تاريخَ الحدود المتنازع عليها، ويجد فنانين ونشطاء وصحافيين (مشهورين في الغالب) ليقدّموا وجهات نظر معاصرة. ففي الضفة الغربية، على سبيل المثال، أقام كروفورد في فندق الجدار الذي صممه الفنان البريطاني بانكسي، وناقش النزاع مع بهاء الحلو، وهو ناشط فلسطيني، والمهندس الإسرائيلي البريطاني الشهير إيال ويزمان. بينما أفرد فصلاً من الكتاب لعمل الصحافي غيرمو أبريل والمصور كارولس سبوتورنو، اللذين سافرا عبر محيط أوروبا بين عامي 2014 و2016 في مهمة لحساب صحيفة «إل باييس» الإسبانية. ويذكر هنا أن حديث كروفورد عن الوضع في مليلية ومناطق حدودية أوروبية مستمد من حواراته مع أبريل وسبوتورنو حول عملهما الصحافي الممتد لسنوات. والواقع أن هناك تأثيراً غريباً في هذه المقاربة شبيهاً بلعبة جدار المرايا. ذلك أننا نشاهد كروفورد يشاهد آخرين يشاهدون الحدود. فهؤلاء الفنانون والمثقفون يسعون لتقديم شهاداتهم بغية أنسنة مآسي الهجرة والحدود. لكننا نسمع عن أعمالهم بدون أن نجرّبها، وقرّاء كروفورد بعيدون عن أعمالهم الفنية، ناهيك عن الأشخاص الذين يهدف هذا الفن إلى استحضار حيواتهم. واللافت أيضاً أن كروفورد يقول في مقدمة كتابه إنه يبحث عن أشخاص «هيمنت الحدود على حيواتهم». أشخاص يعيشون ويعملون على الهامش. لكن يبدو أنه لم يحاور مهاجرين أو طالبي لجوء أو مهرِّبين أو صنّاع سياسات أو سياسيين. وفي لحظة من اللحظات، يسأل كروفورد المصورَ سبوتورنو، في الفقرة المتعلقة بمليلية، حول ما إن كانت لديه فكرة عن شعور حرس الحدود إزاء عملهم. غير أنه من غير المعروف لماذا لم يستغنِ كروفورد عن الوسطاء ويتحدث مع أحد حرس الحدود مباشرة. كما أنه تحدث مع القليل من النساء. ولعل الاستثناء هنا هو دايزي هوغلاند، وهي باحثة متخصصة في علم الفيروسات، ولم تظهر إلا في ختام الكتاب، في فصلٍ عن مسببات الأمراض باعتبارها منتهكةً للحدود، وعن «الحدود الأعظم»، تلك التي تفصل الحياة عن الموت. وبالطبع، فإن وباء «كوفيد-19» أثبت على نحو دراماتيكي كيف أنه لا يمكن احتواء انتقال العدوى عبر الحدود السياسية. لكن الشيء نفسه ينطبق على العديد من تحديات هذا العصر، من تغير المناخ إلى المعلومات المضللة. وخلاصة القول إن الحدود التي تميّز عالَمنا إما عديمة الفعالية، أو عديمة الإنسانية، أو كليهما. وكتاب «حافة السهل» يطلب منا تصوّر بدائل لها. فوراء الحدود «يوجد مستقبل، أي مستقبل»، يقول كروفورد. و«لبلوغه، ما عليك سوى العبور».
محمد وقيف
الكتاب: حافة السهل.. كيف تصنع الحدودُ عالَمنا وتهدمه المؤلف: جيمس كروفورد الناشر: دبليو دبليو نورتون آند كومبني تاريخ النشر: يناير 2023