«أثناء نومك حدث كل شيء»
في اليوم الأخير من عمر الاتحاد السوفييتي، توجه الرئيس الأميركي رونالد ريغان إلى محل إقامته ليستلقي على سريره مطمئناً كما هي رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، فلقد أنجز المهمة التاريخية وأنتهى الكابوس الأحمر بنزول آخر علم للدولة الماركسية في معقلها موسكو.
«نهاية التاريخ» كان أكثر من مجرد كتاب قدمه فرانسيس فوكوياما بمقدار ما كان لحظة فارهة من النشوة بانتصار الرأسمالية بالضربة القاضية على خصمها اللدود الذي نافسها على النفوذ في الأرض وحتى في الفضاء. وعندما كان الغرب نائماً لم يتنبه إلى أن الرأسمالية بدأت عصراً مختلفاً له تفاعلاته ونمطيته فقد بدا الأمر بأن الاختلافات الأيديولوجية قد انتهت، وأن فكرة الرأسمالية فازت كفكرة القرن الاقتصادية، وأحرزت الديمقراطية الليبرالية الفوز السياسي، وكانت الشعوب حول العالم تلتهم كل ما يأتي من الغرب غير أن شيئاً آخر كان يأتي، فلم تكن قيمّ العدالة والحرية والمساواة تجيء في قالب الديمقراطية جميعها قابل للهضم، كانت مشكلات تحدث حتى والعولمة تسود كل أنحاء الأشياء.
الشعوب وجدت نفسها بين رغبتها بين سندان التمتع بالليبرالية وبين مطارق الدولار، إشكالية عميقة لم تشعر بها الولايات المتحدة والغرب حتى وهي تتلقى تنبيهاً في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. فتلك الهجمة الإرهابية لم توقظ الأميركيين من نومهم العميق، كما أنها لم تشعرهم بضرورة المراجعة العميقة لما تقدمه للعالم من شكل سياسي حاكم. الاقتصاد عنصر معقد في حياة الناس مهما اختلفوا في انتماءاتهم الأيديولوجية ومن هنا تسللت القوى المناهضة للرأسمالية، فالاشتراكية وإنْ هي كسرت مع هزيمة السوفييت إلا أنها بقيت جمرة تحت الرماد. «الاقتصاد المخطط» و«الدولة التنظيمية» و«الدولة الاقتصادية» و«دولة الرفاه العام» و«الرأسمالية التقدمية» و«رأسمالية الدولة» و«السوق المفتوح» هي أسماء ونعوت حاول فيها مفكرو الليبرالية التهرب من مواجهة حقيقة ما قدمته الليبرالية من استعمار اقتصادي للشعوب حول العالم.
فالقبضة الحديدية في التعامل مع تطلعات تلك الشعوب كانت قاسية فكل شيء بات في احتكار لسلطة واحدة مركزها في البيت الأبيض، وهنا أيضاً مركزية أخرى يعيشها هذا البيت الذي سيطر عليه اليسار «الديمقراطي»، وعمل على الدفع به باتجاه مضاد تماماً فالحريات تحولت إلى سياط مؤلمة توجع الشعوب.
كل النبؤات التي انتظرت أفول الرأسمالية لم تصل إلى نتيجة أمام كفاءة الاقتصاد الغربي وهو يتجه لإنتاج التقنيات الدقيقة في علوم البرمجيات والذكاء الاصطناعي. النظام الرأسمالي هو حجر الزاوية في تركيبة الدول والمجتمعات والعلاقات الدولية القائمة في العالم، وبالتالي فإن الدفاع عن هذا النظام سيكون هائلاً، لعظم المصالح المتضررة في حال وقوعه.
الرأسمالية بطبيعتها فكرة براغماتية عملية لأبعد مدى، لدرجة أنها تتغذى على الأزمات كما تتغذى بخيرات المستضعفين في هذا العالم في الأوضاع الطبيعي، ولا مانع لدى القائمين عليها أن يلبسوها ألف قناع يخفي بشاعتها وقت الحاجة، أو أن يرقعوها بما يناقضُها لضمان استمرارها. الصين بلغت المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، وباتت قريبة من إزاحة الولايات المتحدة عن عرشها.
الصينيون ابتدعوا شكلاً آخر من الكيمياء الذي جمع بين الاشتراكية والرأسمالية غير أنهم وحتى وهم يقدمون أنفسهم تالياً باعتبارهم لاعباً سياسياً في عالم متعدد الأقطاب مازالوا يحتاجون لوضع فكرة موضوعية حول اقتصاد -على الأقل -موازٍ للاقتصاد العالمي القائم، هذا تحدٍ صعب ومعقد، لا يكفي فيه نوايا التحالفات الممكنة على أرضية مجموعة البريكس مثلاً ولا حتى استدعاء أشلاء المحور السوفييتي السابق، فهي لا يمكنها أن توجد قطباً واضحاً قادراً على إدارة تنافس جيوسياسي حاد لن يكون كما كان عليه في الحرب الباردة الأولى، بالمحصلة أن هناك حقيقة موجودة على هذا الكوكب بأن كل شيء حدث أثناء ما كان العم سام غارقاً في نوم عميق.
*كاتب يمني