الرأسمالية في طورها الأعلى
بعد مضي قرنين ونصف القرن من وجود النظام الرأسمالي في صورته التقليدية التي وضع أنظمتَها مفكروها الأوائل، تواجه الرأسماليةُ في مرحلتها الحالية تحدياتٍ حقيقيةً تعبِّر عن شيخوختها وضرورة تجديدها، بما يتلاءم والتغيرات الاقتصادية والتقنية والثقافية التي شملت المجتمع الإنساني برمته، علماً بأن هذه المسألة بحاجة لدراسات وأبحاث لكافة المجالات التي شملتها التغيرات التي طالت النظام ككل.
ومع أنه يمكن تناول هذه التغيرات بالمجمل، فإن هذه المساحة ستقتصر على الجانب الاقتصادي والذي يشكل الأساس الذي تدور حوله الصراعات، سواء بين الدول أو في النطاق الداخلي لكل دولة رأسمالية، إذ أن هناك العديد من التناقضات التي برزت في العقد الأخير وسرَّعت من حدة تفاقمها الاكتشافاتُ العلميةُ والتقنيةُ المتناميةُ وثورةُ الاتصالات والمعلومات.
أهم هذه التناقضات يكمن في عدم قدرة التركيبة السياسية والاجتماعية للرأسمالية على التأقلم مع هذه المستجدات الاقتصادية والتقنية، إذ أنها تحاول إدارة النظام الاقتصادي والاجتماعي بالأساليب التقليدية، إلا أن التغيرات المصاحِبة لا تتيح لمثل هذه الإدارة السيرَ في هذا الطريق، مما أدى إلى اصطدام النظام بحائط صلب لا يمكن اختراقه، وهو ما أدى بدوره إلى اتّباع أساليب طالما كانت محلَّ انتقاد هذا النظام ومنظِّريه.
ولنأخذ على سبيل المثال أحد البنود الرئيسية الخاصة بالرأسمالية التقليدية، أي تلك المعنية بحرية التجارة وحرية انتقال السلع ضمن الأسواق المفتوحة، إذ يصطدم هذا المبدأ الأساسي بطموح رأس المال الساعي لإدارة العالَم وفقَ مصالحه، وهو ما دفعه لركن هذا المبدأ الأساسي الذي قامت عليه نظرية الأسواق خلال القرنين الماضيين، متبنِّياً في الوقت نفسه قيوداً تتعلق بأسعار السلع والخدمات في الأسواق العالمية ووضع حدود لتداولاتها.
وفي إحدى الجزئيات التي نتحدث عنها تتم الآن محاولات لتحديد أسعار بعض السلع، علماً بأن مستوى الأسعار في السابق يتم إما من خلال قانون العرض والطلب أو من خلال الاحتكار، مما أدى بكافة الدول الرأسمالية إلى إصدار قوانين تجرِّم الاحتكار وتعاقب عليه، مما يعني أن التوجُّهَ الحالي يتناقض تماماً مع أحد أهم أسس الرأسمالية، ويعبّر عن تناقضات حقيقية تَطال هذا النظام وستكون لها انعكاسات شديدة التأثير على تركيبته الحالية.
ومن حيث المبدأ، فإن آلية الأسعار هذه لن تنجح، إذ دعونا نستمع إلى منظِّر قوانين النظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث (آدم سميث) في هذا الصدد، إذ يقول في الفصل الثاني من مؤلفه «ثروة الأمم» إن «التبادل التجاري لن يحدث إذا كان أي من الطرفين يعتقد أنه سيخسر بسببه»، وهذا صحيح إلى حد بعيد. وإلى ذلك، فقد نجمت عن اتّباع هذا التوجه في الوقت الحالي موجاتُ تضخُّم وغلاءِ أسعار عالية أضرت بالمستويات المعيشية لفئات واسعة من المجتمعات في معظم دول العالم وأثارت احتجاجات وعدم رضى اجتماعي تم التعبير عنها بأشكال مختلفة. وأخيراً، فإن آلية تحديد الأسعار بالأسلوب المتَّبع حالياً سبق وأن اُعتُمِدتْ في الدول ذات الاقتصاديات الشمولية وأثبتت فشلها وأدت إلى احتكار الكثير من السلع وتنامي السوق السوداء وارتفاع الأسعار بصورة جنونية.
وتجدر الإشارة إلى أن ذلك يختلف تماماً عن موضوع مراقبة الأسعار بهدف مكافحة الاحتكار ومنع استغلال أحداث معينة لرفع الأسعار، والتي لا بد من مراقبتها من قبل الأجهزة المعنية ضمن ما يسمى حماية المستهلك، وهي مسألة مهمة تصب لصالح المجتمع وحمايته ضمن نطاق الدولة الواحدة، إذ أن ما نتحدث عنه يتعلق بطبيعة الرأسمالية في مرحلتها الآنية. والحال أن هذه التناقضات تعبِّر عن أزمة حقيقية يعاني منها النظام الرأسمالي في طور نموه الحالي، وأن استمراره بالنمط السابق قد تجاوزه الزمن بفضل التقدم التقني والعلمي الذي أتاح بروزَ دول متقدمة اقتصادياً وتقنياً خارج نطاق المنظومة الغربية، مما يعني أن الرأسمالية التقليدية استنفدت قدراتِها وإمكاناتها، إلا أن ذلك لا يعني نهايتَها، وإنما ضرورةَ تجديدها بما يتناسب والتقدم التقني وما أوجده من تغيرات في البنى الاجتماعية والثقافية وفي موازين القوى العالمي، فالتغيرات في البنى الاقتصادية لا بد وأن تجد لها انعكاسات في باقي الجوانب، إذ ربما تعتبر النسخة الاسكندنافية الأكثر ملاءمةً للطور الحالي من النظام الرأسمالي.
*خبير ومستشار اقتصادي