صعوبة التنبؤ بمستقبل التكنولوجيا
إنهم لم يعودوا يقدّمون تنبؤات تكنولوجية كما كانوا يفعلون من قبل، وما عليك إلا تأمل قائمة الأمنيات التكنولوجية التي تتميز بقدر مذهل من بُعد النظر، والتي خطّها الكيميائي الشهير روبرت بويل في ورقة عُثر عليها بعد وفاته في عام 1691:
«استعادة الشباب، أو على الأقل بعض علاماته، كأسنان جديدة، وشعر جديد ملون كما في فترة الشباب» (وقد تحقق).
«فن الطيران» (تحقق).
«فن البقاء طويلاً تحت الماء وممارسة بعض الوظائف هناك» (تحقق).
«الطريقة العملية والأكيدة لإيجاد خطوط الطول» (تحقق).
وأخيراً: «عقاقير فعّالة لتغيير أو تحفيز الخيال والاستيقاظ والذاكرة ووظائف أخرى، وتخفيف الألم، وتوفير نوم لذيذ، وأحلام سعيدة، إلخ» (تحقق، مع بعض المحاذير).
أعتقدُ أن بويل سيكون مسروراً بتقدم طب الأسنان في القرن الحادي والعشرين، وبصبغات الشعر، وبمعدات الغوص، وبالغواصات، والطائرات، وأنظمة تحديد المواقع بوساطة الأقمار الاصطناعية («جي بي إس»). وأغلب الظن أنه كان سيرغب في تجريب أدويتنا المخدِّرة. وقد تنبأ أيضاً بـ«إطالة العمر»، لكنه قد يصاب بخيبة أمل بخصوص هذه النقطة. صحيح، أننا أحرزنا تقدماً كبيراً في الحؤول دون موت الناس جراء العدوى في الصغر، لكننا لم نكتشف بعد كيف نجعل معظم الناس يعيشون بعد سن المئة.
بعض التنبؤات الحديثة لعلماء مستقبليات لم تكن بذات الدقة، ربما لأنها تعتمد بشكل مفرط على تمديد أحدث التكنولوجيات لتشمل مجالات وميادين جديدة. ومن بين أشهر علماء المستقبليات الذين ما زالوا على قيد الحياة راي كرزويل الذي تنبأ في عام 1999 أنه بحلول عام 2019 ستكون الروبوتات قادرةً على تعليمنا، والقيام بعمليات تجارية لفائدتنا، والبت في النزاعات القانونية والسياسية، والقيام بأشغالنا المنزلية.. إلخ.
غير أنه حتى شخص ذكي ولامع، مثل كرزويل، ما كان ليستطيع تخيّل المقالة الرئيسية في دورية «إم آي تي تكنولوجي ريفيو» تحمل عنوان: «جهاز الرومبا (المكنسة الكهربائية المؤتمتة) يسجّل شخصاً في دورة المياه.. كيف وجدت الصورُ طريقها إلى الفيسبوك؟».
ولعل الأدهى من ذلك هو أن جهاز «الرومبا» ما زال لا يضاهي كفاءةَ إنسان يعمل بجد ولا يرقى إليها.
الكاتب المتخصص في شؤون التكنولوجيا إدوارد تينر هو مؤلف كتاب «مفارقة الكفاءة» الذي يبين حدودَ قدرات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. وقد كان لي معه حديث طويل مؤخراً حول صعوبة التنبؤ بمستقبل التكنولوجيا، ولماذا يبدو المستقبلُ اليومَ متأخراً جداً وليس مطابقاً تماماً لما كنا نتوقّعه. فأوضح أن هناك ثلاث مشكلات بخصوص التنبؤ بأي التكنولوجيات ستغيّر العالَم.
الأولى هي نوع من المعوقات العنيدة، والتي قد تفسّر لماذا لم نتوصل بعد لعلاج شامل للسرطان، ولماذا لم نمدد عمر الإنسان حتى يتجاوز سن المئة، ولماذا نحرز تقدماً بطيئاً بخصوص الطاقة النظيفة، حتى مع الاختراق العلمي الرائع في الطاقة الاندماجية الذي أُعلن عنه هذا الشهر؟
وعلى سبيل المثال، فإن انطلاق برنامج «تشات جي بي تي» هذا العام قد يمثّل نجاحاً للذكاء الاصطناعي الشبيه بالإنسان، لكن تينر يرى أنَّ كلَّ ما يفعله في الواقع هو أنه يمتص بحاراً واسعةً من المعلومات الموجودة. «إنه نوع من السرقة الأدبية المتطورة، حيث يعاد تقطيع وخلط أفكار وكتابات أشخاص آخرين وإعادة تعبئتها».
أما المشكلة الثانية المتعلقة بمستقبل التكنولوجيا، فهي أن بعض الاختراعات لا تتفوَّق على تكنولوجيات منافسة في السوق. ولعل خير مثال لذلك هو نوع جديد من الثلاجات صمّمه ألبيرت إنشتاين وعالم فيزياء عبقري آخر هو ليو زيلارد في عام 1926. كيف أمكن لثلاجة ابتكرها إينشتاين أن تخسَر؟ لقد كانت هناك حاجة ماسة إليها، لأن الثلاجات آنذاك كانت تستخدم غازات سامة كانت تتسرب أحياناً، فتقتل أُسراً بأكملها.
ثلاجة إينشتاين-زيلارد استخدمت مجالا كهرومغناطيسياً ومعدناً سائلا كضاغط، مما أتاح إمكانية التخلص من مشكلة الغاز السام، لكنها خلقت على ما يبدو مشكلة ضوضاء مزعجة. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، اكتشف علماءٌ مركَّبات الكلوروفلوروكربون، التي كانت مستقرة وآمنة للأُسر، لكن ومثلما اكتشف العالَم بعد عقود من ذلك الوقت، كانت هذه المركّبات تتراكم في المناخ وتدمّر طبقة الأوزون التي تحمي كوكبَ الأرض.
أما المشكلة الأخيرة بخصوص التنبؤ بالمستقبل، فهي أن العوامل الاجتماعية والثقافية والنفسية تحول أحياناً دون تحقق التنبؤات. فبعد عدة سنوات على استنساخ أول شاة، كانت هناك توقعات في كل مكان بأن الدور التالي سيكون على البشر، أي أن بشراً مستنسخين سيظهرون بعد ذلك. لكن المجتمعات لا تحب فكرةَ أشخاص مستنسخين.
وبالمثل، ربما تُعد المخاوفُ من استخدام «التعديل الجيني» من أجل خلق «الطفل المثالي» مبالغاً فيها. إذ حتى في حال كانت تكنولوجيا «كريسبر» تتيح تلك الإمكانية على مستوى معين، فإن الطفل المثالي ربما لن ينمو ويكبر حتى يصبح بالغاً مثالياً، يقول تينر. ذلك أننا نتسم بعدم الثبات في ما نعتبره مثالياً، إذ «يمكنك تخيّل موجة من الأطفال (الذين خضعوا لهندسة جينية).. وبحلول الوقت الذي يكبرون فيه، سيكونون صاروا قديمين ومتجاوَزين» كما يقول. وربما يحاول آباء الغد استنساخ دماغ إينشتاين، لكن طفلَهم الشبيه بإينشتاين قد يضيّع فرصةَ إحداث ثورة في عالم الفيزياء ويخترع ثلاجة رائعة ولكن لا أحد يتذكرها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سينديكيت»