أكثر ما فاجأ الدول الغربية الكبرى في الحرب الأوكرانية الراهنة هو ضعف حماس بقية العالم غير الغربي لموقفها من الصراع مع روسيا. المفكر الفرنسي برتراند بادي كان قد كتب منذ سنوات كتاباً هاماً بعنوان «لم نعد وحيدين في العالم»، بيَّن فيه بصفة واضحة أن الغرب لم يعد يحتكر صناعة القوة والمعنى وتحديد المعايير الكونية، ولا بد له من أن يتأقلم مع هذا الوضع الجديد الذي ستكون له آثار حاسمة في المستقبل.

ولا شك في أن الأحداث الأخيرة أثبتت للعيان صدق ملاحظة بادي، رغم أنه لا أحد دعم صراحةً العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كما أن موقف الحياد في الصراع الذي اعتمدته جل البلدان غير الغربية لا يُفَسَّر بمحض المصالح الاقتصادية والاستراتيجية.

إن المشكل الحقيقي يكمن في المقاربة الاستراتيجية الغربية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتي تخلت عن آليات التوازن الحافظة للسلم الدولي في مرحلة الصراع القطبي، وهي آليات تتركز في مفهومين أساسيين هما: سيادة الدول في خياراتها المجتمعية والسياسية الداخلية، ونظام الشرعية المؤسسية الضابطة للعلاقات الدولية في دوائرها التعددية.ما يعنيه المفهومان هو الإقرار بحقوق المجتمعات والأمم في الاختلاف الثقافي والقيمي وفي التوجهات الديبلوماسية ضمن توازنات وضوابط المصالح الدولية المشتركة في عالم مترابط الحلقات والمنافع.

والواقع أن مفهوم السيادة طرح إشكالاتٍ نظريةً معقدةً للعقل السياسي الغربي لم يستطع حسمه منذ عصور الحداثة الأولى، في إطار الاستقطاب الحاد بين تصور إجرائي يحصره في القوالب القومية المغلقة وتصور كوني إنساني هو الأفق التاريخي للحداثة بيد أنه يتعارض جوهرياً مع اعتبارات الشرعية الوطنية المحمية قانونياً وفق مقتضيات السلم العالمي. لقد حاول فلاسفة التنوير حل هذه الإشكالية المعقدة باستكشاف أفق قانوني جديد عبّر عنه كانط بالرابطة «الكوسمبولوتية» بين الأمم التي هي شرط السلم الأزلي بين الدول والبلدان، إلا أن هذه المحاولات المتكررة فشلت، بالنظر إلى أن مفهوم السيادة في بعده القومي يحيل في نهاية المطاف إلى صيغ العيش الوجودية للمجتمعات والشعوب التي يطلق عليها العوالم الحضارية المتمايزة.

والواقع أن الفكر الغربي عجز في الغالب عن الاعتراف العملي بمساحة الاختلاف الحضاري والثقافي، نتيجة لميله القوي إلى استيعاب ودمج هذه الاختلافات في رؤيته التاريخية التركيبية من حيث هي محطات متجاوَزة في تاريخ الإنسانية الذي يفضي حتماً إلى المصير الغربي الراهن كنموذج أوحد للبشرية. لم يكن المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما الذي كثر الحديث عنه في العقود الأخيرة أول مَن بلور هذه الأطروحة التي استمدها من بعض المقاربات الهيغلية الشائعة، بل إن فكرة تماهي مسار الإنسانية مع حركة التاريخ الأوروبي متجذرة في العقل الغربي بصفة عميقة وحاسمة.

ومع أن التيار النقدي للهيمنة الغربية قديم قدم الفكر التنويري ذاته، فإنه لم يكسر هذه السردية المركزية إلا في هوامشها وتفصيلاتها الثانوية المحدودة والضيقة. لقد برزت اتجاهات جديدة في الأدبيات الصينية والروسية والهندية تسعى إلى إعادة طرح إشكالية الحداثة والكونية من منظور مختلف عن التجربة الغربية، وبمنأى عن المقاربات الأيديولوجية التي اتسمت بها خمسينيات وستينيات القرن الماضي من منظومات اشتراكية جنوبية ونزعات عالم ثالثية غير منحازة، هي في مجملها من انعكاسات الصراع القطبي السائد أوانها.ما تتسم به الأطروحات الراهنة هو الصدام حول تركة الحداثة والكونية التي لا خلاف حول مرجعيتها الإنسانية، وإنما يتركز التعارض حول مضامينها العينية وآلياتها العملية الإجرائية.

وفي هذا السياق، نشير إلى نموذجين يتعلق أولهما بنمط تدبير الحقل العمومي، ويتعلق ثانيهما بالصلة بالتقليد الموروث. في الجانب الأول، نشير إلى الأطروحات التي تشكك في قدرة النظام التنافسي للإرادات الفردية الحرة (الديمقراطية الليبرالية الغربية) على تحقيق المضمون الإيجابي للديمقراطية كنظام تمثيلي للإرادة العمومية في مقابل نموذج الدولة المركزية القوية المعبرة عن الضمير القومي المتناغم (الفيلسوف الصيني تشاو تنغيانك).

وفي الجانب الثاني، نشير إلى المقاربات التي ترى في التقليد مرتكز هوية وديمومة الأمة ككيان تاريخي مستمر، في مقابل مفاهيم القطيعة والانفصال التي تشكل عمق المتخيل الثقافي الغربي (المفكر الروسي الكسندر دوغين). ما نخلص إليه هو أن الصراع الدولي الجديد يواكبه جدل نظري وفكري هام حول قيم ومرتكزات الحضارة الكونية الراهنة، لا شك أنه سيكون له دور حاسم في تشكل العالم القادم.

*أكاديمي موريتاني