التضخم ورأسمالية المستقبل


بعد جدل على مدار عام، لم يعد بوسع أحد إنكار عودة التضخم في عام 2021. وفي عام 2022 ، سنكتشف مدى استمرار التضخم ومدى مرارة الأدوية الاقتصادية المطلوبة لكبحه. والآراء منقسمة. فمازال المتفائلون يصرون على أنه حتى إذا تبين أن التضخم ليس عارضاً انتقالياً، فسيخمد قريباً. ومدى صحة توقع هؤلاء يتوقف على نتيجة بعض الصراعات الرأسمالية الأعمق. 

وهناك حقاً عدد من العوامل التي تجتمع لخفض التضخم في 2022، صحيح أن أسعار السيارات المستعملة تضاعفت وأسعار البنزين زادت 50% العام الماضي، لكن هذا لن يحدث ثانية. والاختناقات في التجارة العالمية بدأت تتخفف بالفعل قليلاً. وهناك مساحة كبيرة للبنوك المركزية كي تشدد السياسات النقدية، لكن حتى الآن، لا توجد محاولة لتقليص الطلب برفع أسعار المال أو تقليص إمداداتها. 

ومن المشجع أن أسواق السندات تتوقع ألا يتجاوز التضخم 2% إلا قليلاً في السنوات الخمس التالية، وألا ترتفع أسعار الفائدة في بنك«الاحتياط الفيدرالي« عن مثل هذا القدر. والتوقعات بشأن المستهلكين لا تختلف كثيراً، لكن في الوقت الحالي، يعتقد مستثمرون أن ارتفاع الأسعار قد يخضع للسيطرة بطريقة أقل ألماً نسبياً، لكن التضخم الأعلى بشكل دائم يظل أحد الاحتمالات. واحتمال تجاوزه سيتوقف على سؤالين محوريين لطالما حاصراً الرأسمالية وهما: هل ستحصل قوة العمل على نصيب أكبر على حساب رأس المال؟ وإذا حدث هذا، هل ستتحمل الشركات نفسها تكلفة الأجور الأعلى أم ستنقلها إلى المستهلكين؟ 

منذ ثمانينيات القرن الماضي، تطورت الرأسمالية بحيث أبقت التضخم تحت السيطرة. وهناك احتمال الآن أن الرأسمالية شرعت في تغيير النظام. فقد ظل نصيب العمل من الإنتاج المحلي الإجمالي مستقراً عند نسبة أعلى قليلاً من 60% في العقود الخمسة التالية للحرب العالمية الثانية. لكن هذا النصيب بدأ يتراجع بشدة بعد انفجار فقاعة شركات الإنترنت عام 2000، ثم انخفض أكثر بعد الأزمة المالية عام 2008. وعبرت «إلين زينتنر»، كبيرة الاقتصاديين في بنك مورجان ستانلي، عن ذلك بالقول إنه كان هبوطاً «غير مسبوق» تاريخياً في نصيب العمل في الإنتاج المحلي الإجمالي «مما يمثل تصدعاً في الهيكل الأساسي للاقتصاد». 

والضعف المتزايد للنقابات العمالية جعل من الصعب على العمال التفاوض جماعياً. والعوامل السكانية قلصت بالمثل قدرتهم التفاوضية. وقدرة الشركات على نقل الإنتاج إلى بلدان ذات كلفة أقل في أجور العمل، وخاصة الصين، فاقم من عرقلة نمو الأجور. وفاقم من هذا أيضاً تدفق المهاجرين من المكسيك. فما كان صفقة سيئة بالفعل للأسوأ أجورا أصبح شيئاً مروعاً في السنوات التالية لأزمة 2008 المالية، بعد تزايد اعتماد الشركات على عمال بدوام جزئي يحصلون على مزايا أقل، ويمكن التخلص منهم بكلفة قليلة. وعلى مدار عدة أعوام في ظل إدارة باراك أوباما، تراجعت أجور عمال الدوام الجزئي كثيراً عن عمال الدوام الكامل، وأيضاً عن مواكبة التضخم. 

وهذا الخلل أدى إلى غضب شعبي وصعود دونالد ترامب. لكن العام الماضي، قلبت الجائحة سوق العمل رأساً على عقب فيما يبدو. فبعد عمليات الإغلاق بسبب الفيروس، زادت فرص العمل إلى مستويات شبه قياسية مع فشل الشركات في محاولة شغل وظائف منخفضة الأجور. وكسب العمال الأقل مهارة وتعليماً وأجراً قدرة تفاوضية أكبر مما كان لهم من قبل. والآن يحصلون على أفضل صفقات للأجور في جيل، ورواتبهم ترتفع بسرعة أكبر من رواتب الأشخاص الأفضل أجرا والأكثر كلفة في التعليم. ولسوء حظ أصحاب الأجور الأدنى، فقد تغير نمط آخر أيضاً. فالأجور الإضافية التي تفاوضوا فيها لا تغطي بحال من الأحوال التضخم متسارع الارتفاع. وتظهر بيانات الاحتياط الاتحادي في أتلانتا تراجعاً حاداً في الأجور الحقيقية. 

وهذا يقدم للعمال حوافز أكبر للسعي إلى الحصول على أجور أعلى في 2022.وهو ما سيمثل عقبة كؤود أمام التضخم القائم. وإذا اضطر الرأسماليون إلى الدفع لعمالهم نصيبا أكبر من عائداتهم فسيكون لديهم خياران. الأول: تحمل التكلفة بأنفسهم دون رفع الأسعار والاكتفاء بهامش أرباح أقل. والآخر: نقل زيادات الأجور إلى المستهلكين برفع الأسعار، إذا استطاعوا هذا. فهل سيفعلون هذا ويستطيعونه؟ ترى «زينتنر»، من مؤسسة «مورجان ستانلي»، أن هذه هي اللحظة التي يتعين فيها على الاحتياط الاتحادي التحرك بهدف تحقيق توازن بين التوظيف الكامل واستقرار الأسعار. وإذا قررت الشركات تحمل العبء، فلن يؤدي تصاعد الأجور بالضرورة إلى تصاعد التضخم. 

وحتى العقد الماضي أو نحو ذلك، قدم لنا التاريخ دليلاً واضحاً. فهوامش الأرباح تتحسن في الأوقات الجيدة وتتراجع في الركود، مع اختيار الشركات تحمل بعض الأعباء في حالات الركود الاقتصادي. لكن بعض الأمور تغيرت منذ الأزمة المالية. فقد تعافت سريعاً هوامش أرباح شركات ستاندرد آند بورز 500 بعد عام 2008 مدعومة بركود الأجور. وعشية الجائحة تفادت الهوامش انخفاضاً كبيراً في عقد وسجلت مستوى مرتفعاً قياسياً. 

ومنذ الجائحة، ابتعدت الهوامش أكثر عن النموذج التقليدي وعانت من تراجع طفيف- بفضل عمليات الإقالة الكاسحة في البداية- وهي تتصاعد حاليا لتصل إلى مستوى ربح لم تشهده قط من قبل. والآن، يتعين على الشركات توظيف عدد أكبر من العاملين لزيادة الإنتاج، ولن تستطيع هذا فيما يبدو دون زيادة في الأجور. ويؤكد مديرو الشركات للمستثمرين أنهم واثقون من قدرتهم على التسعير، وأن وول ستريت يتوقع ارتفاعا أكبر لهوامش الربح في العام المقبل. وهذا يجعل سياسيين يشتكون من أن تركيز الصناعة الشديد، بسبب عمليات الاندماج والاستحواذ على مدار العقود القليلة الماضية، ترك للشركات حرية التصرف في طلب أي سعر تريده. 

ولطالما شغلت هذه الحجة اهتمام أوراق بحثية أكاديمية وجلسات منتدى دافوس، وستتصدر الجدل في عام 2022 وفي العقود القليلة الماضية، مال توازن الرأسمالية بشدة لصالح رأس المال. وتمثلت إحدى النتائج في إبقاء التضخم تحت السيطرة. والآن وبعد جائحة نادرة الحدوث أشاعت الاضطراب في أسواق العمل، يكتسب العمال، والأقل أجوراً منهم بخاصة، قوة. وقصة التضخم في 2022 ستمثل أيضاً قصة عن مدى تغيّر نظام الرأسمالية حقاً، وعودته إلى ما يُعتقد أنه توازن أكثر صحة. ويجب مراقبة الأسعار ليس لتأثيرها على الاقتصاد فحسب، لكن لما ستخبرنا به بشأن مستقبل مجتمعاتنا. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»