مع دخولنا جميعاً عصر تغير المناخ، ستتغير العلاقات الدولية التي ألفناها منذ ما يقرب من أربعة قرون. ولا مفر على الأرجح من هذا التغير، بل من المحتمل أنه ضروري. لكنه سيتسبب أيضاً في صراعات جديدة، ومن ثم حرب ومعاناة. ومنذ صلح ويستفاليا عام 1648، دعم الدبلوماسيون في زمن السلام والحرب على السواء، غالباً، مبدأ السيادة القومية. والفكرة التي يكفلها ميثاق الأمم المتحدة مفادها أن ليس للدول الأجنبية حق في «التدخل في الشؤون التي تخضع أساساً للسلطان القضائي المحلي لأي دولة».
والمفهوم وُلد، مع النظام الكامل للدول الحديثة، من رحم الأوضاع المادية والنفسية التي أعقبتها حرب الثلاثين عاماً. فبدءاً من عام 1618 تدخلت القوى الأوروبية في أراضي القوى الأخرى كيفما شاءت تقريباً. وقضت جولات متعاقبة من الحرب على حياة نحو ثلث سكان وسط أوروبا. ومن مقبرة القارة تلك، تعهد رجال الدولة بأنه من الأفضل أن تعتني كل دولة بأمرها فحسب.
ولم ينطل على أحد في صلح ويستفاليا أن تنهي هذه الفكرة الواقعية الحروب. فعلى كل حال، من خلال الاعتراف بالسيادة، أقر النظام بأن تسعى الدول لتحقيق مصالحها القومية التي قد تتصادم مع مصالح الدول الأخرى. ولكن اتفاق الآراء الجديد قدم على الأقل فرصة لمنع نزف دماء آخر بغير تمييز. وحتى في ذاك، لم يكن مبدأ السيادة تاماً أو ليس مثار جدل. فعلى امتداد فترة طويلة من الوقت، كانت أفضل حجة مقابلة هي الحجة الإنسانية ومفادها أن الدول ليس من حقها فحسب، بل من واجبها أيضاً، التدخل في شؤون الدول الأخرى إذا كانت هذه الدول ترتكب فظائع مثل التطهير العرقي.
والآن، هناك حجة أقوى ضد السيادة يقدمها مفكرون مثل ستيوارت باتريك في «مجلس العلاقات الخارجية» البحثي الأميركي. ففي عالم تواجه كل الدول جميعاً طوارئ تغير المناخ في الكوكب، لم تعد السيادة مفهوماً مقبولاً. وهذا التصور ماثل على الأرجح في أذهان كثيرين من الوفود في قمة الأمم المتحدة السادسة والعشرين للمناخ المنعقدة في جلاسجو. فمحل الجدل في هذه المفاوضات ليس المصلحة «القومية» لأي بلد، فيما عدا ارتباطها بالمصلحة المشتركة لجنسنا في المحافظة على مشاع الكوكب مثل الغلاف الجوي والمحيط الحيوي.
فذرة من ثاني أكسيد الكربون تنبعث من الصين أو الولايات المتحدة أو الهند قد تصل إلى مكان لا يعلمه أحد وتعجل بتغير المناخ في كل مكان. وقد تصيب مدناً في ألمانيا بفيضانات وتحرق غابات في أستراليا وتجيع أشخاصاً في أفريقيا وتغرق جزراً في المحيط الهادي. ولذا لكل سكان العالم مصلحة مشروعة في التحكم في الغازات المسببة للاحتباس الحراري التي تنبعث في أي سلطان قضائي.
وفي تجل مبكر، مأساوي ومضحك في الوقت ذاته، لهذا التحول في العلاقات الدولية، دار سجال بين الرئيس البرازيلي خايير بولسونارو ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون. فقد ترك الرئيس البرازيلي الشعبوي الحرائق تلتهم قطاعات واسعة من غابات الأمازون المطيرة. وهذه الغابات هي «الرئة» الأساسية أو «مخزن كربون» العالم الذي يمتص الغازات المسببة للاحتباس الحراري من الغلاف الجوي ويخزنها في الأشجار. لكن الآن أصبحت غابات الأمازون تنفث الكربون في الهواء.
واتهم الرئيس الفرنسي علناً نظيره البرازيلي بالضلوع في «تطهير بيئي». ورد بولسونارو مُتهماً «ماكرون» بأنه «استعماري جديد». والسيادة كانت القضية المحورية في السجال. فهل الغابة التي تقع في البرازيل من شأن البرازيل أم من شأن العالم؟ وفي تصور افتراضي للمستقبل، هل سيكون من بين حقوق تحالف تقوده فرنسا، مثلاً، إعلان حرب على البرازيل لمنع تطهير بيئي؟ من حسن الحظ أن 100 دولة، من بينها البرازيل، تعهدت في الأيام القليلة الماضية بالتعاون للتصدي لانحسار غطاء الغابات تدريجياً.
وهذا يفتح أفقاً جديداً للتفكير في الشؤون الدولية. وصناع السياسة منغمسون بالفعل في تحليل أنماط جديدة من الصراعات قد يتسبب فيها الاحتباس الحراري داخل الدول وفيما بينها. وهذا يتضمن حروباً بشأن حقوق المياه النظيفة واختفاء الأرض القابلة للزراعة أو الهجرات الجماعية. لكن التقادم المتزايد لفكرة السيادة في ويستفاليا كنظام للعلاقات الدولية قد يتسبب في المزيد من الاضطرابات. ولا مفر من هذا. وفي المستقبل، قد تفكر بعض القوى أو التحالفات في تدخلات عسكرية في دول أخرى لإنهاء ما يرونه تطهيراً بيئياً. وقد يخوض آخرون حرباً إذا اعتقدوا أن الدول المنافسة تتخذ إجراءات أحادية الجانب ضد تغير المناخ تهدد مصالحهم.
وعلى سبيل المثال، فكر مجلس الاستخبارات القومي الأميركي فيما قد يحدث إذا قامت دولة ما كميات كبيرة من الأيروسول في طبقة ستراتوسفير من الغلاف الجوي. فمثل هذه الهندسة الجغرافية قد تصد أشعة الشمس، وتبرد الكوكب كما يفعل الرماد بعد اندلاع كبير لبركان. لكنها قد تغير أيضاً نماذج المناخ في دول أخرى، وتسلبها مصادر من دخلها. فمن سيكون له السيادة على الآخر في هذا التصور؟
لقد حان الآن التفكير في أفول فكرة السيادة. وربما نحتاج إلى مقابل بيئي لما تمثله منظمة التجارة العالمية في مجال التجارة. أي قيام هيئة دولية جديدة تناقش المعضلة بصراحة وتحاول المحافظة على النظام. وحتى إذا حدث هذا، سيصبح العالم على الأرجح أكثر اضطراباً وخطورة ليس فقط بيئياً، لكن أيضاً جيوسياسياً. إننا جميعاً نخشى من طامة بيئية، لكننا لا نريد أيضاً حرب ثلاثين عاماً أخرى.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»