في كتابهما الصادر مؤخراً بعنوان «العرق والعلوم الاجتماعية»، يتناول عالم الاجتماع ستيفان بود والمؤرخ جيرار نواريل الجدل السائد اليوم في الجامعات الغربية (الأميركية على الأخص) حول المسألة العرقية ومنزلتها في الأبحاث العلمية، في الجامعات ومراكز الدراسات المتخصصة.
وقد ذهب الباحثان إلى أن مفهوم العرق قد أخذ اليوم مكان مفهوم الطبقة الذي شكل في بداية ووسط القرن الماضي المصطلح المركزي في الأبحاث الاجتماعية، في سياق هيمنة الفكر الماركسي أوانها.
ومع أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة شهدت محاولات جلية لإعادة فهم الخارطة الاجتماعية والاستراتيجية الجديدة للعالم، حيث برز بقوة مفهوم «صراع الثقافات» بديلاً عن «صراع الأيديولوجيات» (أطروحة هنتنغتون الشهيرة)، إلا أن المصطلح الذي ساد بقوة في نهاية المطاف هو مفهوم الهوية العرقية الذي تمسكت به الدراسات ما بعد الكولونيالية الصاعدة في أيامنا.
لقد أرجع الباحثان طغيان المسألة العرقية إلى عدة عوامل من بينها طبيعة شبكات التواصل الاجتماعي التي تتغذى من المواقف والحساسيات المثيرة، وتحول اليسار إلى النزعات الهوياتية الضيقة في إطار استراتيجية تعبئة واستمالة الأقليات وأوساط المهاجرين، وهيمنة المقاربات التفكيكية التي تسعى لتقويض قيم التنوير والعقلانية الكلية والتقدم التي هي الإطار الفلسفي لمثل كونية مشتركة تتجاوز الاختلافات العرقية المحدودة.
ما يؤكده الكاتبان هو أن النموذج العرقي في الدراسات الاجتماعية وإن كان ينطلق من محاربة التمييز العرقي، فإنه في الحقيقة يفضي إلى تثبيته وتوطيده من خلال الأدوات النظرية التي يستخدمها باعتبارها تفرض ثنائيات تصنيفية وتقسيمية لا مخرج منها.
ليس هذا الجدل في حد ذاته بالجديد، فقد طرح لدى مفكري الحركة الوطنية التحررية في أفريقيا وآسيا في بدايات القرن العشرين في إطار استراتيجية مكافحة الاستعمار، بحيث يكون السؤال هو: هل الأجدى هو الاستناد إلى الخصوصيات الإثنية والثقافية من أجل محاربة مشروع للهيمنة لا يكتفي بالسيطرة على الأرض والموارد بل على العقول أيضاً، أم أنه من الأفضل استخدام مدونة التنوير والحداثة الأوربية لمواجهة أنماط الاستغلال والتبعية من منظور إنساني كوني؟
عندما بلور الرئيس السينغالي الأسبق ليبولد سيدار سنغور والأديب المارتينيكي (من منطقة مارتينيك الفرنسية) اميه سيزير مفهوم «الزنوجة» في ثلاثينيات القرن العشرين، إنما كانا يعنيان الدفاع عن كرامة واستقلالية الإنسان الأسود المستعمَر من منطلق خصوصياته الحضارية والتاريخية.
إلا أن الزنوجة هنا لا تكتسي معنى عرقياً مغلقاً كما كانت تتصور الأدبيات الاثنوغرافية الأوروبية، بل لها دلالة قيمية وإنسانية تتجاوز الانتماءات الإثنية وتندرج في إطار السعي لما سماه سنغور بالحضارة الكونية الواحدة.
إن هذا التصور نفسه هو الذي اعتمده الفكر العروبي في مطلع القرن العشرين عندما فهم الهوية العربية كحقيقة حضارية وثقافية لا كمفهوم عرقي خصوصي مغلق. وبقدر ما كان سنغور يفتخر بإرث مدرسة تمبكتو التي حفظت التراث الأفريقي بالحروف العربية، كان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر يعتبر الهوية الأفريقية مرتكزاً ثابتاً من مرتكزات المشروع القومي العربي.
المشكل الذي تطرحه بعض النزعات العرقية الجديدة هو هذا الانفصام أو القطيعة مع فكرة الكونية الإنسانية التي تعرضت لنقد جذري في الدراسات الفلسفية والاجتماعية في السنوات الأخيرة. ومن أوجه هذا النقد مراجعة فكرة الهوية نفسها التي اعتبرت صياغة مبنية لا طبيعية أو فطرية، وهدم مفهوم التقدم من منظور القطائع التاريخية التي تقوض التصور الغائي الإيجابي لحركة التاريخ، ونقد التصور الادماجي للدولة من حيث هي كيان سياسي قادر على التعبير عن الإرادة المشتركة للمجتمع في تنوعه واختلاف مكوناته البشرية والثقافية.
وإذا كان هذا النقد قد نتج عنه في نهاية القرن العشرين تقويض للأطروحات الهوياتية اليمينية، فإنه في السنوات الأخيرة وظف بطريقة مغايرة في الخطاب الحقوقي لمكافحة أشكال التمييز التي تأخذ في الغالب طابعاً عرقياً عنصرياً.
لا شك في أن النموذج العرقي قد يؤدي إلى تثبيت التصنيفات الإثنية في التحليل الاجتماعي وبالتالي في ديناميكية الوعي بما يتعارض مع مفهوم الهوية المفتوحة الحرة الذي هو منطلق الفكر الليبرالي الذي هو الدعامة النظرية الجوهرية لخطاب حقوق الإنسان. ومن هنا ندرك أن النموذج العرقي قد يكون مفيداً في الكشف عن مظاهر التمييز والغبن والهيمنة، لكنه يحتاج دوماً إلى التجاوز في رؤية إنسانية كونية هي الرهان الحقيقي للمساواة والإنصاف.
*أكاديمي موريتاني