كنت قد قرأت في نهاية السبعينيات كتاب «الإسلام يتحدى» لوحيد الدين خان، وهالني وقتها بأسلوبه المبتكر الجديد في الدفاع عن العقيدة الإسلامية بأسلوب حديث ومنهجية رصينة. ولقد ظننت أن الرجل مُتوفى منذ زمان بعيد، قبل أن أُفاجأ عام 2015 بحضور تسلمه جائزة الإمام الحسن بن علي في أبوظبي، عن «منتدى تعزيز السلم»، من راعي المنتدى سمو وزير الخارجية الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، ورئيسه العلامة الشيخ عبد الله بن بية.
والواقع أن الرجل الذي رحل قبل أيام كان حالةً فريدة في الفكر الإسلامي، من حيث مساره الفكري والسياسي وإنتاجه العلمي. وقد انضم مولانا وحيد الدين خان مبكراً لـ«الجماعة الإسلامية» التي أسسها أبو الأعلى المودودي في شبه القارة الهندية عام 1941 على غرار تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر، لكنه انسحب منها في بداية الستينيات بعد خمسة عشرة سنة من الانتماء، إثر خلاف عميق مع نهج الجماعة في تصور الخطاب الإسلامي وفي نهج الدعوة وأولوياتها.
في كتابه «خطأ في التفسير» الصادر بالأوردية عام 1963 (ترجم للعربية سنة 1992) يورد مولانا وحيد الدين خان بالتفصيل الخلفيات الكاملة والمفصلة لقطيعته مع المودودي وجماعته، ناشراً الرسائل التي تبادلها مع قادة الجماعة، بمن فيهم المودودي نفسه الذي آثر عدم الرد على اعتراضاته الجوهرية بخصوص فهم الإسلام والدعوة إليه.
ما يظهر من كتاب وحيد الدين خان الهام هو أن خلافه مع جماعة المودودي تركَّز حول جوهر الأطروحة التي تنطلق منها كل جماعات الإسلام السياسي وهو التفسير السياسي للدين، باعتباره نظاماً كاملاً ومفصلاً للحياة ليست الجوانب التعبدية فيه سوى مكونات جزئية من مشروع مجتمعي يكرس «حاكمية» الله على الأرض.
وإذا كان حسن البنّا هو الذي بلور الاتجاهات الكبرى لمشروع الإسلام السياسي، فإن المودودي هو الذي صاغ أدواته النظرية الأساسية في كتابه الشهير «المصطلحات الأربعة في القرآن»، ويعني بها الإله والرب والدين والعبادة. ولقد شكل هذا الكتاب المادة الأساسية لتفسير المودودي للقرآن الكريم، الذي لا يختلف عن التفسير الأيديولوجي لسيد قطب.
في كتابه «خطأ في التفسير» يقف مولانا وحيد الدين خان طويلا عند تصور المودودي لإقامة الدين، راجعاً إلى التفاسير الكبرى المعتمدة في التراث الإسلامي، مبيِّناً أن التفسير السياسي للدين يتعارض كلياً مع فهم سلف الأمة وعلمائها الذين أجمعوا على أن الدين هو في جوهره علاقة تعبد بين الله وعباده، وأن غرضه الهداية والخلاص في الآخرة، لا فرض نظام سياسي أو أيديولوجي بالانقلاب والإكراه أو العمل الحزبي النضالي.
وفي حين ينتقد وحيد الدين خان مقولة «الحكومة الإلهية» أو «إقامة الدين في الأرض» التي وردت في دستور الجماعة الإسلامية الباكستانية، يوضح أن خلافه مع المودودي لم يكن مجرد تباين ظرفي في التوجه والممارسة، بل خلاف جوهري في فهم الدين وتصوره، منتهياً إلى أن حركات الإسلام السياسي تسعى في الحقيقة إلى إلغاء المرجعية الدينية للأمة وبناء إسلام جديد على أسس أيديولوجية لا صلة لها بالموروث العقدي والتأويلي للمسلمين.
ولا شك أن هذه المقاربة الانقلابية العدمية هي بالنسبة له منبع مسلكيات التشدد والعنف التي تسم التنظيمات الإسلامية المتطرفة، باعتبارها نقلت الدين من دلالته الروحية ووظيفته الإرشادية الأخلاقية، ليكون منظومة أيديولوجية تعتمدها الدولة وتفرضها على الناس.
ولقد كان وحيد الدين خان من دعاة السلم والساعين إلى تثبيته في بلاده ما بين الهندوس والمسلمين، مستلهماً روح الدعوة النبوية التي كان أساسها نشر الخير والتبشير به، ولم تكن الحرب وسيلةً لها. وهكذا يبين مولانا أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يحارب في حياته إلا في ثلاث وقائع قصيرة كانت كلها للدفاع عن النفس وتفادي العنف الأقصى.
كان مولانا وحيد الدين خان موضوع إجماع في بلاده الهند، وكانت علاقاته مكينة بكل قادة الطوائف، بما أهّله لفك النزاعات التي كثيراً ما تندلع بين المسلمين وغيرهم، ومن بينها أزمة المسجد البابري عام 1992 التي كادت تؤدي إلى حرب أهلية طاحنة في الهند. وفي مرحلة ارتفع فيها صوت التطرف والعنف الراديكالي، اعتبر مولانا أن خط التمايز اليوم داخل الساحة الإسلامية يكمن في الفصل ما بين التصور الروحاني القيمي للدين المؤسس لعلاقات السلم والتعايش والمودة بين البشر على اختلاف معتقداتهم ومللهم، والتصور السياسي الأيديولوجي للدين الذي يحوله إلى أداة للكراهية والإقصاء والقتل.