إن حوار الثقافات كبديل عن «صراع الحضارات» ليس فقط حواراً نظرياً حول القيم والمبادئ والعلوم والفنون.. بل هو حوار يتضمن هذا المستوى النظري كنوع من التقارب بين طرفي علاقة الحوار، كما أنه محاولة لاكتشاف وإظهار العناصر الإنسانية المشتركة بين الجانبين عبر تاريخ طويل من التفاعل المشترك على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، مرة من الشمال إلى الجنوب في عصر الإمبراطورية الرومانية، ومرة أخرى من الجنوب إلى الشمال في عصر الفتوحات الإسلامية، ومرة ثالثة من الشمال إلى الجنوب أثناء الاستعمار الأوروبي الحديث لبلدان العالم العربي، ومرة رابعة من الجنوب إلى الشمال أثناء حركات التحرر الوطني.
وربما يعني حوار الحضارات الآن تأكيداً لمبدأ لا غالب ولا مغلوب. فقد جربت شعوب البحر الأبيض المتوسط هذا النموذج عبر التاريخ كلما قوي الشمال وفاض على الجنوب، أو قوي الجنوب وفاض على الشمال.
وأما ما يحدث من «صراع» بين الشمال والجنوب، فهو يحدث أيضا بين الشرق والغرب. إذا قوي الشرق العربي الإسلامي امتد نحو الغرب الأوروبي حتى الأندلس، من أجل تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة عربية وعودة الفاتحين من دمشق إليها من جديد عبر شمال المتوسط (أوروبا) بعد أن أتوا إلى الأندلس من عبر جنوبه (شمال أفريقيا). وإذا قوي الغرب امتد إلى الشرق كما حدث أيام الحملات الصليبية من الغرب إلى الشرق والاستيلاء على الأراضي المقدسة. وبعد رد الحملات الصليبية وامتداد الدولة العثمانية من الشرق إلى الغرب حتى قلب أوروبا، عاد الاستعمار الغربي الحديث من الغرب الأوروبي وسرعان ما ستسقط بعدها خلافة بني عثمان. وبعد حركات التحرر تم تحرير الشرق من جديد في جنوب المتوسط وشرقه، وعاد الغرب إلى حدوده الطبيعية شمال البحر وغربه، وربما عبر الأطلسي أيضاً، أي امتداد الغرب القديم إلى العالم الجديد.
لقد جرى ما يسميه البعض «صراع الحضارات» حول البحر الأبيض المتوسط، أي قلب العالم القديم، بين شماله وجنوبه، وشرقه وغربه مرتين. وكل طرف غالب مغلوب مرتين. مما يجعل عقدة التاريخ قابلة للحل عبر الزمن، طالما تم التخفف من ثقل الماضي وانطلق العمل المشترك من أجل رفع تحديات الحاضر والسير نحو مستقبل في طريق تتساوى فيه جميع الأطراف، وذلك وفق نموذج جديد بديل عن «صراع الحضارات» ألا وهو «حوار الثقافات»، وهو المعنى الأساسي للحوار بين الشمال والجنوب، وكذلك الحوار العربي الأوروبي، والحوار بين الشرق والغرب، الحوار العربي الأميركي (الغرب يمتد عبر الأطلسي) والحوار العربي الآسيوي.
لم ينجح حتى الآن الحوار العربي الأوروبي، لأن أوروبا مازالت تنظر إلى العرب كمجال حيوي لها، أي كأسواق ومصادر للطاقة والعمالة الرخيصة وكمناطق نفوذ.. تكراراً لصورة الغرب الاستعماري القديم. والعرب ينظرون إلى أوروبا باعتبارها المتحكمة في أقدار البشر، اقتصاداً وسياسة وثقافة. تريد أوروبا الاقتصاد قبل السياسة. ويريد العرب السياسة قبل الاقتصاد. ومع ذلك فأوروبا تفهم تماماً قضايا العرب ومطالباتهم بعودة الوفاق والسلام بين الأطراف المتناحرة في كل من ليبيا والعراق وسوريا واليمن، وباسترداد حقوق الشعب الفلسطيني. للعرب رصيد تاريخي طويل في الثقافة قبل ثقافة الغرب في العصور الحديثة. والتفاهم الثقافي سابق على التبادل الاقتصادي والتعاون السياسي. وكما ساعد الشرق الجنوب إبان حركات التحرر يستطيع الغرب أن يساعد الجنوب لبناء الدول الحديثة والتنمية، خاصة أن الجنوب يعاني مشاكل التصحر والفقر والتخلف.. وبعضها من آثار الاستعمار الأوروبي نفسه.
أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة