تعتبر المفاهيم الجديدة مثل «صراع الحضارات»، و«حوار الثقافات» و«نهاية التاريخ»، و«العولمة»، و«الحكامة»، و«المجتمع المدني» و«حقوق الإنسان»، و«حقوق المرأة»، و«الخصخصة».. إلخ، كلها مفاهيم أحادية الطرف، تظهر جانباً من الحقيقة وتخفي الجانب الآخر. تظهر جانب المركز، وتخفي جانب الأطراف. مثلاً «صراع الحضارات» يقابله «حوار الثقافات»، و«نهاية التاريخ» تقابلها «بداية التاريخ»، و«الحكم» تقابله «المشاركة الشعبية»، و«حقوق الإنسان» وجهها الآخر «حقوق الشعوب»، و«الخصخصة» في مقابل «القطاع العام». وقد يشتق مصطلحان من نفس الاشتقاق مثل الخصخصة (PRIVATIZATION) وتعني تحويل القطاع العام إلى القطاع الخاص، و«الخصوصية» (SPECIFICITY) وتعني الهوية والأصالة في مقابل «العولمة» (GLOBALIZATION).
وهذه في الحقيقة ليست مفاهيم أو تصورات، بل هي أحداث وقعت وتحاول أن تجد شرعية لها في مفهوم. فصراع الحضارات مثلاً حدث في تاريخ الغرب الحديث وهو الحملات الأوروبية التي قضت على ثقافات الشعوب المغلوبة. والعولمة تشريع للرأسمالية بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في عام 1991. ونهاية التاريخ تبرير للرأسمالية وانتصارها بعد انهيار الاشتراكية. و«الحكامة» تعني سيطرة المؤسسات المالية الدولية من أجل إدارة اقتصاد الدول بصرف النظر عن حاجات الشعوب، ولمصلحة الرأسمالية العالمية.
ولا يقوم بإخراج هذه المفاهيم العلماء بدافع نظري خالص وبهم علمي صرف بل تخرج من مراكز أبحاث تخطط للسيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وفنياً. فهي مفاهيم موجهة. ومن الطبيعي في الغرب أن تتفاعل مراكز الأبحاث والجامعات والمؤسسات العلمية والفنية الخاصة مع مراكز إصدار القرار في الدول الكبرى كنوع من التنسيق بين العلماء والقادة، بما في ذلك الدراسات الاستشراقية على سبيل المثال. ويتم ذيوعها ونشرها على نطاق واسع ومن خلال أجهزة الإعلام ودور النشر والترجمة والرحلات وتجنيد كل وسائل الاتصال من أجل ذلك الغرض.
بل إن هذه المفاهيم ليست آراء ووجهات نظر، وإنما تعبر عن لحظة من لحظات تغير نظم العالم، من نظام قديم إلى نظام جديد. فهي سلاح فكري مثل باقي الأسلحة الاقتصادية والحربية. وظيفتها إعلان نهاية النظام القديم وبداية النظام الجديد، والمساعدة على القضاء على مخلفات النظام القديم التي بقيت رافضة للنظام الجديد. ومن هنا أتت ضرورة القضاء على بقايا حركات التحرر الوطني أو تطويرها في الحركات الأصولية، أو غيرها من الحركات العنفية في مختلف أنحاء العالم.
إن موضوع «صراع الحضارات» إذن موضوع في ظاهره الثقافة وفي باطنه السياسة. الشكل ثقافي لدى الشعوب التقليدية التاريخية التي ما زالت مرتبطة بماضيها. والمضمون سياسي لدى الشعوب التي انفصلت عن ماضيها باسم الحداثة لإلهاء شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية عن أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وشغلها بما تحب وتعشق. هو جزء من كل، أحد أبعاد الصراع الدائم والمستمر بين المركز والمحيط في العصور الحديثة في الغرب.
*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة