إن الحديث عن حوار الحضارات وموقف الثقافة العربية فيه، يتطلب عدة ملاحظات أولية للمفاهيم وسياقاتها التاريخية. فمن الملاحظ أنه بعد انهيار المعسكر الشرقي في عام 1991، تسارع الغرب الذي أخذته نشوة بالنصر والثقة بالرأسمالية في إبداع مفاهيم جديدة شغل بها العالم، وانشغل بها المثقفون العرب وغيرهم من مثقفي الشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، فراحوا يكتبون الحواشي والتخريجات، وكانوا ما يزالون (العرب خصوصاً) قريبي عهد بعصر الشروح والملخصات أيام الخلافة العثمانية. ولما كان معدل إفراز المفاهيم والتصورات والمصطلحات في المركز أسرع من وشروحها والتعاليق عليها وتفسيرها في المحيط، لم تعد هناك فرصة لشعوب المحيط لإبداع مفاهيمها وتصوراتها الخاصة التي تعبّر عن رؤيتها للعالم، وتظل تلهث وراء فهم ما يُعطى لها كطُعم، وهي فرحة بأنها على مستوى المرحلة وبأنها تدخل عصر الحداثة وتفكر في ما يفكر فيه الغرب؛ فيقل إحساسها بالدونية أمامه، فعصره عصرها وتفكيره تفكيرها وهمومه همومها وألفاظه ألفاظها.. ودون أن تدري أن متونه شروحها، وأن إبداعه استهلاكها، وأن الإحساس بمركب العظمة والتفوق لديه يزيد.
ومن هذه المفاهيم «صراع الحضارات» و«حوار الثقافات» و«نهاية التاريخ» و«العولمة» و«الحوكمة» و«المجتمع المدني و«حقوق الإنسان» و«حقوق المرأة» و«الخصخصة».. إلخ. وكلها مفاهيم موجَّهَة؛ في ظاهرها الفكر وفي باطنها السياسة.
وعن «صراع الحضارات» بالخصوص فالمقصود منه أن الصراع بين المعسكرات وبين الأيديولوجيات وبين النظم السياسية.. الاشتراكية والرأسمالية، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، المركز والمحيط، الاستعمار الجديد وحركات التحرر الجديدة.. قد انتهى لصالح طرف واحد هو الطرف الأول، أي الطرف الأقوى. وما على الطرف الثاني إلا أن يعترف بالهزيمة.
الصراع الآن يأخذ منحى آخر، فالمتفوق في السياسة والاقتصاد يكون بالضرورة متفوقاً في الحضارة، لأنها هي التي جعلته متفوقاً، وسمحت له بزعزعة ثقة شعوب الأطراف في ثقافتها وحضارتها. ومَن يخسر في الواقع يخسر في الذهن. ومن ينهزم في الحاضر ينهزم في الماضي.
وربما يكون المقصود هو إشغال شعوب الأطراف بشيء عزيز عليها، متمسكة به، ترى فيه سبب بقائها في التاريخ واستقلالها وهويتها، ألا وهو الحضارة، وبيان أن هذا الشيء العزيز في خطر يتهدده الصراع، حتى تتمسك به الشعوب وتشغل نفسها بالدفاع عن هويتها حتى تشيح بوجهها عن الصراع الحقيقي وهو المنافسة الاقتصادية في عصر العولمة، واقتصاديات السوق، والشركات متعددة الجنسيات.. وكأن العالم قد انقسم قسمين، للمركز الاقتصاد وللأطراف الحضارة!
وربما يكون القصد هو المزيد من تكريس المركزية الحضارية كدافع دفين. ففي القرنين الماضيين لم يكن الدافع اقتصادياً وسياسياً فقط، بل قام أيضاً على التفرقة بين الأبيض والأسود، بين السامي والآري، بين المتحضر والمتوحش، بين الحضر والبدو.
وقد تنبأ هنتنجتون بمستقبل يتحد فيه الإسلام بالبوذية في الشرق في مواجهة الحضارة الغربية. قد يكون الهدف هو إبعاد المسلمين عن الأخذ بأسباب القوة في الغرب، ودفعهم نحو مزيد من الانغماس في قضايا الهوية بعيداً عن حضارة العقل والعلم والعالم.
أما «حوار الحضارات» فالمقصود منه أن يخف التوتر بين الشعوب في حوار على مستوى الثقافة بعيداً عن السياسة ومشاكلها والاقتصاد وهمومه. الثقافة توحد الشعوب والسياسة تفرّقها. فبدلاً من كل أشكال الصراع بين مَن يملكون ومَن لا يملكون، بين المركز والمحيط، يمكن عقد حوار بين الطرفين تآلفاً ومحبةً وإخاء كما هو الحال في «حوار الأديان».