مشاعر متضاربة تملكتني منذ تلقيتُ دعوة العيادة الصحية المحلية بالتطعيم ضد «كوفيد-19»، وكان أولها الخجل من هذه الحظوة لمجرد تقدمي بالسن، فيما أصاب الفيروس الفتاك نحو مائة مليون إنسان، وقضى على حياة ما يزيد عن المليون. وخفّف شعوري بالخجل إعلان توفير اللقاح في الصيدليات العامة، وسارعتُ أدعو الأهل والأصدقاء للاستفادة من هذه المبادرة، رغم معرفتي أن بعضهم يعتبر «كوفيد-19» مؤامرةً هدفُها السيطرة على العالم، وخصوصاً على العرب والمسلمين، المستهدفين -حسب رأيهم- بمشاريع جهنمية تحشر جينات في عقولهم للسيطرة عليهم! وتحَرّرتُ من خجلي حين وجدت أن بعض مَن يؤمن بهذه الأفكار ويروِّج لها قد سارع للتطعيم بالمصل المضاد لفيروس «كوفيد-19». وكثيراً من أهلنا في المنطقة العربية تَطّعموا، وشاركت بلدان عربية في برامج تطوير أمصال مضادة للفيروس صينية وروسية.
وهناك الآن 64 مصلا مضاداً لفيروس «كوفيد-19»، تتصدّرها تسعة أمصال، أميركية، وصينية، وبريطانية، وأوربية، وروسية، وصينية، وكلها توفر درجة حصانة عالية.
والعالَمُ ملكوت الفيروسات، وهي أكثر الكائنات عدداً فيه. وعلماء الصين، حيث اندلع الوباء مطلع العام الماضي، أول من اكتشف فيروس كورونا المستجد. ولم تكن أول صوره، التي التقطها العالم الصيني «ساي لي» واضحة، بل مُضّببة لا تُرى تفاصيلها.
متابعة هذه المعلومات الحاسمة في تاريخ العلوم، وربما البشرية، جعلتني أتَرنّح ما بين مشاعر الفزع والفخر عندما زُرقتُ بمصل «بفايزر» يوم الأحد الماضي. وكنتُ أعرفُ كيف تشتبك في جسمي مضادات الأجسام مع تريليونات التريليونات من فيروسات «كوفيد-19» المجهرية التي لا يمكن أن تُرى إلا بالميكروسكوبات الإلكترونية. والاسم الكامل للمصل «بفايزر. بايونيت» مُرّكب من اسم الشركة الأميركية «بفايزر» التي شاركت في إنتاج المصل الذي طوّرته الشركة الألمانية «بايونيت» التي أسسها «أوغور ساهين» وزوجته «أوزلم تورتشي»، وكلاهما من عوائل تركية هاجرت إلى ألمانيا في القرن الماضي وساهمت في ما يسمى «المعجزة الألمانية». والزوجان العالمان نموذج فريد لتواضع علماء عصر النهضة العربية الإسلامية. تروي تفاصيل حياتهما «نيويورك تايمز» في تقرير مسهب عنوانه «فريق الزوج والزوجة وراء التوصل إلى المصل المضاد لفيروس كوفيد-19». ويُستهل التقرير بإعلان «ساهين» في مؤتمر علمي قبل سنتين أن تكنولوجيا «الحمض النووي الريبي المرسل» (RNA) الذي طورته شركته سيساعد في إنتاج سريع لمصل في حال وقوع وباء. ويروي التقرير تفاصيل حياة الزوجين العالمين وكيف عادا مسرعين صباح تسجيل زواجهما إلى المختبر لمتابعة أبحاثهما. وعلى الرغم من أن قيمة شركتهما «بايونيت»، ومقرها برلين، أكثر من 21 مليار دولار، فهما يقيمان في شقة متواضعة، ولا يملكان سيارةً، بل يستخدمان الدراجة الهوائية في التنقل، وإذا دُعيتَ إلى منزلهما فلا تتوقع غير فنجان شاي تركي!
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا