مع دخول حقبة التطعيم ضد فيروس كورونا المستجد، ظهر نقاش متجدد حول صدقية وفاعلية أدوية التلقيح التي أنتجتها مختبرات من دول عديدة، ومن المتوقع ظهور أدوية أخرى منافسة في الأسابيع القادمة.
وإذا كان العالَم دخل عملياً السنة الثانية من عصر كورونا في موجته الثانية العاتية، فإن الآمال الكبيرة المنعقدة على أدوية التطعيم المكتشَفة في زمن قياسي لم يبدد القلق المنتشر من مظاهر الإخفاق والفشل في استباق وإدارة أخطر أزمة صحية عرفتها البشرية منذ قرن كامل.
في الأشهر الماضية، تباينت وتصادمت المنشورات العلمية حول الجائحة القاتلة، وتحول النقاش بين المختصين إلى جدل آراء وتخمينات لا دقة فيها ولا يقين.
العالم الفيزيائي البولندي «بيتر فازيلتش» خصص مقالة مطولة لهذه الحالة المقلقة، أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية. وقد اعتبر فازيلتش أن الفكر العلمي يشهد أزمة عميقة من حيث معايير الصدقية والقبول والإدارة والتسيير، نتيجة للعلاقات المعقدة القائمة راهناً بين العلم والصناعة والسياسة، واعتبر أن التقدم العلمي يتباطأ اليوم بصفة خطيرة، لاسيما في المجالات الحيوية كالطب، نتيجةً لكون السياسي ورجل المال هما مَن يتحكم في مآلات ومخرجات الاكتشافات العلمية. ويستخلص من هذه الملاحظة أننا نعيش نهاية العصر الذي كنا نعتقد فيه أن العلم سيغير جوهرياً إلى الأفضل حياةَ الإنسان وسيوصله إلى أعلى درجات الترقي والتقدم.
وبخصوص أزمة الصدقية، يلاحظ الفيزيائي البولندي أن العلماء أصبحوا اليوم في عجز كلي عن بسط براهينهم وأدلتهم الدامغة في المجالات التي تستأثر بالنقاش العمومي مثل التطعيم ضد الفيروسات والجراثيم والتغير المناخي والتغذية. ويبدو أن الحقيقة العلمية الموضوعية الإجماعية قد انحسرت، وأصبح العلم مجدداً مدار تخمينات متعارضة دون حسم. لم يعد المشتغلون بالعلم قادرين على نشر وتعميم إنتاجهم العلمي وتوصيله إلى الناس، بما انعكس سلباً على الثقافة العلمية العامة المشتركة.
وقد نتج عن هذه الأزمة الإبستمولوجية الخطيرة تراجع تأثير العلماء في العالم، فلم يعد لهم حضور في النقاشات الكبرى التي تهم مصير العالم والإنسانية وغدا دورهم محصوراً في إنتاج الألعاب الرائجة في السوق الاستهلاكية، مثل المنتجات الإلكترونية وأدوات التسلح المدمرة.
ومن مظاهر هذه الأزمة تعطّل آلية التجريب الميداني التي هي خصوصية المنهج العلمي في ضبط قوانين الطبيعة من خلال مبدأ التجربة المتكررة التي تفضي إلى نفس النتائج وفق نفس معطيات المعاينة والاختبار. ما نلمسه اليوم هو تباين النتائج والأطروحات العلمية رغم وحدة المنهج وتماثل طرق البحث والتجريب، بما انعكس بحدة خلال الأشهر الماضية في دراسات كبار المتخصصين البيولوجيين وعلماء الفيروسات بخصوص أزمة كورونا.
إن لهذه الأزمة الإبستمولوجية الاجتماعية علاقة وثيقة بنمط إدارة وتسيير الحقل العلمي الذي أصبحت تتحكم فيه اللوبيات الصناعية والتجارية، في الوقت الذي تراجع التعليم العلمي الرصين وضاعت أصول وأخلاقيات البحث العلمي الجاد.
وتبدو أطروحة فازيلتش غريبة وشاذة، فالانطباع السائد خلال السنوات العشرين الأخيرة هو أن البشرية دخلت في عصر الصناعة المعرفية المتقدمة والثورة المعلوماتية المفتوحة، وإن العلم أصبح أعدل شيء قسمةً بين الناس. بل إن بعض الباحثين في المستقبليات ذهب إلى حد التبشير بالانتقال الكوني الجماعي إلى العصر الصناعي الثاني الذي تحكمه الشبكات الاتصالية الرخيصة والمعممة وموارد الطاقة النظيفة والتقنيات الصحية التي ستقضي على الأمراض وتمكِّن الإنسان من تحقيق حلمه في الخلود والقوة.
عندما قابلت في أبوظبي قبل سنوات عالم المستقبليات الأميركي الشهير «الفين توفلر» لم أنكر عليه التبشير بهذه الآفاق الطوبائية المثيرة بعد أن تحققت أغلب توقعاته التي قرأناها في بداية الثمانينيات في كتابيه «صدمة المستقبل» و«الموجة الثانية». بيد أن أزمة كورونا الحالية قد قوّضت هذه الأحلام الطوبائية، وأظهرت أن المجتمعات الصناعية الحديثة قد أضاعت القدرة العملية على مواجهة الأوبئة والأزمات الفيروسية، وأن البنيات العلمية نفسها لم يعد يحكمها منطق الاكتشاف والإبداع بل منطق الربح والاستهلاك والصناعات الترفيهية.
كان الفيلسوف الفرنسي «ميشال سر» الذي رحل في السنة الماضية يقول إن التكنولوجيا المعاصرة قتلت العلم من حيث هو خطاب الحقيقة والموضوعية، إذ لم تعد التقنية تحتاج إلى الفرضيات والنماذج العلمية. الخطورة هنا، كما يراها «سر»، هي أن يفقد الإنسان المعاصر في نهاية المطاف الإيمان بالحقيقة والحاجة إليها، بضياع بوصلة العلم الذي هو الأفق الحديث لقول الحقيقة.