يعود تاريخ «صحيفة يثرب» إلى العام الأول للهجرة، وهي عقد مدني بين سكان يثرب، على اختلاف مشاربهم، وسميت بعدة أسماء، وردت في «السيرة النَّبوية» لابن إسحق (تـ151 هج) وابن هشام (تـ213 هج) بـ«الكتاب» و«الصَّحيفة»، وفي «الأموال» لأبي عبيد (تـ224 هج) بالكتاب، ومَن سماها بالموادعة، والوثيقة، والميثاق، والمعاهدة، والدُّستور.
قام المستشرق البريطاني «ر.ب. سرجنت» (تـ1993) بتدريس «صحيفة يثرب»، ضمن المقرر الدراسي لعشرة أعوام في جامعة كامبريدج بعنوان «دستور المدينة»، على أنه نص يحفل بالتعايش مبكراً بين الأديان، ولهذا المستشرق دراسة مفصلة عنوانها «دستور المدينة»، نشرها في «المجلة الإسلامية»، عام تقاعده (1964)، لحقها بدراسة مفصلة أكثر(1978) عنونها بـ«السَّنة الجامعة المعاهدات مع يهود يثرب وتحريم يثرب». كان تدريس «صحيفة يثرب» بكامبريدج لشأن تاريخي، باعتبارها إحدى النماذج الرَّائعة على محاولات البشرية في تجاوز الحروب الدِّينية (راجع نص سرجنت/ ترجمة فوزي البدوي على موقع مؤمنون بلا حدود).
أخبرني أحد طلاب جامعة «بيتسبرج» في ولاية بنسلفانيا الأميركية، كان مِن مقررات علم الاجتماع، في السنة الثَّانية، «دستور المدينة»، كأحد الأساسات التي قام عليها تطور الدستور المدني، ضمن تطور الدّولة المَدنية، إلى جانب تدريس «جمهورية أفلاطون»، و«دستور أثينا»، كان ذلك في السنة الدراسية (1992-1993). حظي نص الصَّحيفة بترجمة ضمن ترجمة السيرة النَّبوية وكتب التَّاريخ الإسلامي، مِن قبل المستشرقين. ليس هذا فقط بل كان مقرر تدريس فكر أبي حنيفة النعمان (تـ150 هـ) ضمن التحضير لدراسة الطب في الجامعة نفسها، بما عُرف بـ«المنحدر الزّلق»، وهذا موضوع آخر.
لا تبدو صَحِيفة يثرب «دينية»، لذا ليس دقيقاً استشهاد الإسلاميين بها كحجِّةٍ لقيام دولة دينية، إنما فصلت الصَّحيفة بين الدِّين والسّياسة، وبالتالي أنها وثيقة مدنية. ما ورد في الوثيقة ليس غريباً على الحياة بمكة، قبل الإسلام، فكانت تعيش فيها أديان مختلفة، وخبر الصُّور: «... إلا ما تحت يدي، فرفع يده عن عيسى بن مريم وأُمه» مشهور (الأزرقي، أخبار مكة). جاءت «صحيفة يثرب» بقبول اليهودي والمشرك بشرط عدم إعانة الخصم الحربي. فمن بنودها، مِن غير التعايش مع اليهود وهي كثيرة، «لا يُجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن»، وأنها لا تميز بين دين وآخر ولا قوم على قومٍ، وكان الأبرز فيها المادتين (45) و(42) «إن الجار كالنّفس غير مُضار ولا آثم»، و«إن النَّصر للمظلوم»، دون تحديد الدِّيانة.
هنا أتوقف عند طرح المستشرق البريطاني مرجليوت (1940) في مقاله «نشأت الشّعر العربي» (1925)، ثم تبعه طه حسين (1973)، بما يُقال «وقع الحافر على الحافر»، «في الشّعر الجاهلي» (1926)، إن العرب قبل الإسلام ليس عندهم ما هو بقيمة شعر المعلقات السبع، وليس لديهم شيء مِن التحضر والتمدن، وأكثر ما موجود ما هو إلا تلفيق على ما عُرف بالجاهلية (محمود شاكر، المتنبي رسالة في الطَّريق)! لكنْ يكفي لإزالة هذا الوهم قراءة كتابيّ المؤرخين العراقيين جواد علي (1987) «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (عشرة مجلدات)، وأحمد سوسة (1982) «تاريخ حضارة وادي الرَّافدين» (مجلدان)، وما تضمن مِن فصول تخص علاقة الجزيرة العربية بحضارة وادي الرَّافدين المبكرة، وهذان المؤرخان لا يكتبان عواطفَ بل دلائلَ.
أقول: نحن أمام مشهد يكاد لا يُصدق لغرابته، حين يُقدم الغرب نصاً مِن الفترة النَّبوية، على أنه نموذج للدستور المدني، بينما يشهد الغرب نفسه ممارسات شباب مسلمين، سرقت منهم العقول والضَّمائر، بقطع الرُّؤوس والتَّفجيرات، وتتنكر الأحزاب الدِّينية لمَدنية الصَّحيفة، وتصر على أنها وثيقة دينية مغلقة تبرر حاكميتهم الإلهية، بينما يسميها الغربيون بـ«دستور المدينة»، ويدرسونها كأحد أروع ما توصل إليه البشر في التمدن.
تأخذنا الدَّهشة مِن المفارقة بين السنة الأولى الهجرية، وما عليه الجماعات الدينية، وإلى أين سحبت صحوتهم مجتمعاتنا السنة (1442) بعد الهجرة؟! أين ذهب ألق «صحيفة يثرب»، هذا ما يُجيب عليه الشَّاعر المصري يوسف الشَّربيني (تـ1687): «ما بقبقَ الكوزُ إلا مِن تألمهِ/ يشكو إلى الماء ما قاسَـى مِن النَّارِ» (هزُّ القحوفِ)، لقد نسخت الحوادث بنود الصَّحيفة، ليحييها الغرب علمياً بكامبريدج وبيتسبرك، نموذجاً مدنياً يُحتذى به.
*كاتب عراقي