أحسنت الإمارات والسعودية بإقرار تدريس الفلسفة في السنة الدراسية الجديدة، في إطار النهج الذي يتبناه البلدان في الانفتاح والتجديد الفكري ومحاربة التعصب والتطرف الديني. فمما لا شك فيه أن أزمة الدراسات الإسلامية في الجامعات العربية ناتجة عن إقصاء تدريس الفلسفة في كليات ومعاهد العلوم الشرعية، وهي حالة شاذة لا مبرر لها، باعتبار أن علوم الشريعة تداخلت تاريخياً مع الفلسفة وارتبطت معها وثيق الارتباط. ويبدو هذا الترابط في علوم الدين الثلاثة الأساسية: علم الكلام والفقه والتصوف. وبخصوص علم الكلام، يتعين التنبيه إلى أن هذا العلم الذي ضعُف اليومَ تدريسُه إلى حد الإلغاء نتيجة لضغوط وتأثير جماعات الإسلام السياسي والحركات السلفية الراديكالية، قد قام منذ نشأته الأولى في تداخل كثيف مع الفلسفة، حيث إن الأنساق الثلاثة الأولى في الفلسفة الإسلامية (الكندي وثابت بن قرة وأبو بكر الرازي) كانت أعمالا فلسفية- كلامية، كما أن الكتابات الكلامية الأولى لم تكن بمعزل عن النصوص الفلسفية اليونانية وبصفة خاصة محاورة «التيماوس» الإفلاطونية التي هي أول منظومة كوسمولوجية قرأها ونقدها المتكلمون. وفي حين كانت إلهيات ابن سينا صياغة فلسفية رصينة للحدوس الكلامية في الطبيعة والوجود، فإن علم الكلام اتجه بعد اللحظة السينوية إلى ما سماه ابن خلدون بعلم الكلام الفلسفي الذي ميّز الأشعرية المتأخرة (منذ الجويني والغزالي إلى الرازي والشهرستاني). وهكذا أصبحت الفلسفة حاضرة بقوة في العلم الذي يتعلق بأصول الاعتقاد والإيمان.
أما الفقه الذي يتعلق بأحكام التكليف وضوابط العبادة، فلا يخلو من التأثير الفلسفي، خصوصاً في علم أصول الفقه الذي اعتبره مصطفى عبد الرازق المظهر الأقوى للتجربة الفلسفية الإسلامية. وغني عن البيان أن علماء الأصول قد ساهموا بقوة في فلسفة اللغة من خلال مباحث الدلالة، كما أنهم اعتمدوا منذ الجويني والغزالي المنطق الأرسطي الذي هو خلاصة العقل الفلسفي اليوناني، وانتهوا في العصور الوسيطة المتأخرة إلى نظرية المقاصد والضرورات التي تؤسس لنظرية فلسفية عميقة في الأخلاقيات والقانون الطبيعي.
أما التصوف الذي هو علم التربية والسلوك فقد مر بمرحلتين: مرحلة التجربة الروحية الزهدية والذوقية التي تعبر عنها كتب «قوت القلوب» و«آداب السلوك» إلى المرحلة الثانية التي سعى فيها كبار المتصوفة الفلاسفة إلى صياغة هذه التجربة الروحية الأخلاقية باصطلاحات ومفاهيم فلسفية، بعضها مبتكر من داخل السجل التداولي الإسلامي وبعضها مستمد من الفلسفة اليونانية، كما هو جلي في أعمال ابن سبعين وابن عربي الحاتمي وعبد الكريم الجيلي.
وهكذا نستخلص أن الفلسفة ليست نبتة غريبة في التراث الإسلامي، كما يدعي المتعصبون المؤدلجون، بل إن ابن رشد -وهو الفقيه القاضي والأصولي الفيلسوف- يفتي بوجوب تعلّمها على من له الأهلية والقدرة لأنها عين الحكمة التي هي الوجه الآخر للشريعة.
ولا يخفى أن أغلب أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات العربية أصابها في العقود الأخيرة تأثير الأيديولوجيات الإسلاموية التي اجتهدت في تجريد علوم الدين من عمقها الفلسفي، فتم القضاء على علم الكلام واستبدل بأدبيات «التصور الإسلامي» الهزيلة (سيد قطب ومحمد قطب..)، في حين تم الهجوم على القياس المنطقي في الأصول وحُجِّمت أطروحة المقاصد لتصبح مجرد أداة أيديولوجية من أدوات «إسلامية المعرفة». أما التصوف الفلسفي فقد نُبذ بشدة واعتبر هرطقةً وإلحاداً في الدين.
قبل سنوات دُعيتُ إلى مؤتمر علمي كبير نظَّمه الأزهر في القاهرة حول الإمام أبي الحسن الأشعري، وقد ذكر لي أوانها أحد كبار علماء الأزهر أنه أدرك أروقة الجامع الشريف تُدرَّس فيها فلسفة ابن سينا، لكون كتب الأشعرية المتأخرة لا تُفهم بدونها، بيد أن الهجمة الإخوانية التي تعرضت لها أقسام الدراسات الإسلامية أدت في نهاية المطاف إلى القضاء على الدرس الكلامي نفسه، حتى أن من يدرسون علم الاعتقاد صاروا قِلّةً معزولةً حتى في معاقل الأشعرية الكبرى مثل الأزهر والقرويين والزيتونة.
وبطبيعة الأمر، لا يعني إعادة الاعتبار للفلسفة الاكتفاءَ بالنصوص والمراجع الفلسفية القديمة في نسخها اليونانية والإسلامية، بل لا بد من تدريس الفلسفات الحديثة في أقسام الدراسات الإسلامية، وخصوصاً في المجالات ذات الصلة المباشرة بالدين، مثل فلسفات التأويل والأخلاق والقانون والسياسة التي توفر لطالب الدراسات الشرعية عُدةً تأويلية رصينة وتغرس لديه القيم العقلانية النقدية التي لا بد منها لتجديد الدين وانفتاح الثقافة الإسلامية على العصر الحاضر.
*أكاديمي موريتاني