في سياق المعادلة شرق المتوسطية الجديدة، ظهرت أصوات عديدة ترى الصراع الجيوسياسي القائم في الإقليم أنه «صراع حضاري» في مواجهة الهيمنة الغربية. الرئيس التركي أردوغان استخدم المقولات نفسها، رغم انتماء بلاده لأهم مؤسسات النفوذ الغربي، مثل حلف الأطلسي ومجلس أوروبا، وترشحها الدائم لعضوية الاتحاد الأوروبي.
والمعروف أن تجربة تركيا الحديثة تأسست منذ نهاية القرن التاسع عشر على الانتماء الغربي لتركيا، والطموح لاندماجها في النظام الإقليمي الأوروبي، وقد بلور مؤسس الدولة القومية التركية مصطفى كمال أتاتورك هذا التوجه في صياغته الأيديولوجية والدستورية وآلياته السياسية. إنه المشروع نفسه الذي تبنّته الزعامات الوفدية في مصر في بدايات القرن العشرين، وعبّر عنه كتاب طه حسين الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» الذي طرح فكرة انتماء مصر إلى العالم الغربي.
بدايةً من خمسينيات القرن الماضي، ظهر الخطاب الحضاري المناوئ للغرب في اتجاهين: الاتجاه العالم ثالثي ذي الخلفية اليسارية، الذي تعزز في السنوات الأخيرة في مدرسة ما بعد الكولونيالية التي ترجع في أصولها النظرية إلى كتاب إدوارد سعيد المعروف «الاستشراق» الصادر سنة 1978، والاتجاه الإسلامي السياسي الذي برز مع المدرسة القطبية في تصورها لأصالة وشمولية «التصور الإسلامي» مقابل «الغزو الثقافي الغربي»، قبل أن يوطد إنتاج معهد الفكر الإسلامي ومدرسة عبد الوهاب المسيري هذا المسلك، من خلال فكرة «الممارسة النظرية المستقلة»، و«التدافع الحضاري»، ومحاربة «التحيز المعرفي».
ورغم اختلاف المصدرين، فقد جمعت بينهما كتابات وأعمال فكرية، من أهمها في الخمسينيات والستينيات أفكار مالك بن نبي حول «مشكلات الحضارة»، مع أنه كان يؤمن بعمق بالفكرة الأفروآسيوية كخيار بديل عن الهيمنة الغربية في مرحلة الصراع القِطري السابق، ولم يكن منغلقاً في أدبيات «الأصالة الحضارية»، كما أن المفكر المصري القبطي «أنور عبد الملك» قد بدأ منذ مطلع الستينيات نقد الاستشراق والمركزية الأوروبية، طارحاً فكرة «البديل الحضاري الشرقي»، ترجمةً لأطروحة فك الارتباط مع المركز الغربي، التي بلورها صديقه سمير أمين من منظور اقتصادي أيديولوجي.
لقد استندت المدرسة القطبية (سيد قطب ومحمد قطب) إلى بعض الكتابات الأدبية والاجتماعية المنتشرة حول نقد الغرب، وهي في عمومها من تأليف كتاب غربيين ثانويين، من نوع الطبيب الفرنسي اليميني المتطرف «الكسيس كاريل»، والكاتب الألماني المحافظ اسوالد شبنجلر، وعالم الاجتماع العنصري «غوستاف لبون». وأغلب هذه الكتابات ظهرت ما بين الحربين في مرحلة يأس وقلق كبيرين سادا في النخب الأوروبية، وقد ترجمت إلى العربية، وكتب عنها أوانها في الصحافة المصرية.
إلا أن كتاب إدوارد سعيد حول الاستشراق شكل، من دون شك، خطوة نوعية في أدبيات نقد المركزية الغربية والدفاع عن حق الشرق في التميز الثقافي والحضاري. وإذا كان كتاب سعيد قد أثر بقوة في أدبيات ما بعد الكولونيالية والدراسات «السفلية» في الهند وأميركا اللاتينية، فإنه وظف في أيديولوجيا الإسلام السياسي، بإخراج جديد لأطروحة «التصور الإسلامي الخصوصي» وفكرة التمايز الحضاري النوعي بين الإسلام والغرب. وقد بلغ هذا الخط شأوه الأقصى مع صدور كتاب وائل حلاق «قصور الاستشراق» قبل سنتين، حيث نقرأ محاكمة قاسية وحادة لتركة الحداثة، منظوراً إليها كنتاج للمركزية الغربية. ولم يسلم من النقد إدوارد سعيد نفسه، الذي دشن هذا الخط النظري التفكيكي.
إن هذا الخطاب النقدي الذي يعتمد مقاربة «التمايز الحضاري»، يتسم بخللين أساسيين: يتعلق أحدهما بمضمونه النظري، وثانيهما بمآلاته العملية.
أما الجانب النظري، فيتعلق بخطوط التمايز والفصل بين الحداثة من حيث هي حركية تاريخية ذات أبعاد إنسانية كونية، ومسار التفوق والسيطرة الغربية. فإذا كان السياقان قد تداخلا وتزامنا عملياً، فإن علاقة التلازم النظري بينهما تظل مطروحة إشكالياً. فلا مناص من قبول قوة وصلابة المرجعية الإنسانية لحركية الحداثة في قيمها المرجعية التي لا يتصور اليوم الخروج عنها، مثل الحرية والمساواة الإنسانية والمواطنة والإرادة الفاعلة والفصل بين السلطات.. وليس من الصحيح أن الحداثة، وإن قامت على أسس وثوابت مرجعية واحدة، قد كرست نموذجاً ثقافياً أو مجتمعياً أحادياً، بل إن الترجمة الموضوعية والتطبيقية لهذه القيم أفضت إلى جدلية نظرية وأيديولوجية واسعة في الفكر الغربي وفي تجاربه المختلفة، يعكسها الاختلاف البارز حول الخيارات المجتمعية الكبرى (ما بين النزعات المحافظة والليبرالية والجمهورانية والمجموعاتية.. إلخ).
أما الجانب العملي، فيتعلق بامتناع الخروج من أفق الحداثة من حيث هي حركة تاريخية كونية، بحيث إن النماذج البديلة التي تقدم عادة باسم الاختلاف الحضاري، هي في غالب الأحيان من الرؤى والأفكار الهامشية في فكر الحداثة الغربي، ولو تم استخلاصها بمناهج التفكيك والنقد التي تعبر عن ديناميكية الحداثة الداخلية.