تتغير أولويات الدول والمجتمعات على نحو استراتيجي، بمعنى مراجعة الاستمرار أو التوقف في مجالات وبنود واتجاهات السياسات والإنفاق العام، وتمتد هذه الاتجاهات أيضاً إلى الأفراد والمجتمعات. فالأمم جميعها صارت تدرك بوضوح أن قدرتها على العبور في التحولات الكبرى التي تعصف بالموارد والأعمال والسياسات، تعتمد على توجيه مواردها وتركيز وعيها وإدراكها في اتجاهات الصحة والغذاء والتعليم، والتكيف مع متطلبات وفرص التكنولوجيا في إعادة إنشاء أسلوب الحياة والعمل والمؤسسات على النحو الذي يحقق السلامة العامة، ويضمن مواصلة الأعمال والتنظيم والإدارة للمصالح والأسواق والاحتياجات العامة والخاصة والمجتمعية.
وبالطبع فإن الاحتياجات الأساسية للإنسان هي القدرة على العيش أطول فترة ممكنة بصحة جيدة وقدرات معرفية وحياتية تمكنه من العمل لنفسه والمشاركة مع أسرته ومجتمعه وبلده في أداء وتنفيذ الالتزامات والحقوق والواجبات التي تعاقدت عليها الأمم. لكن في حالة الاستقرار والرخاء تعمل هذه الأولويات بتلقائية دون أن يشعر بها جميع الناس، ثم تنسيهم هذه التلقائية أهميتها وضرورتها، وعلى سبيل المثال يقال في التراث العربي: «الماء أرخص موجود وأعز مفقود»، فقد كنا قبل جائحة كوفيد-19 نحصل في حياتنا اليومية على الضرورات الأساسية لحياتنا، كالماء والخبز والغذاء والدواء، بسهولة ويسر، ولم نعد نلاحظ المخاطر والتحديات التي يمكن أن تنشأ لو حصل خلل أو نقص في توفير المواد الأساسية أو في خطوط وعمليات الإمداد والإنتاج. ورغم أنها كانت عمليات معقدة ومتقدمة تجري على نحو متواصل، فإن فئة قليلة من الناس تعلم أو تتذكر ذلك.
أصبح الفرد جزءاً أساسياً في السياسات العامة، إذ تعتمد عليه السلامة العامة إلى حدّ كبير، وفي ذلك صار أسلوب الحياة، في العادات الشخصية والغذائية والعلاقات الاجتماعية، هو الأساس الذي تعتمد عليه الأمم. لقد تحول الفرد إلى ضامن للعقد الاجتماعي ولنجاح السياسات والتشريعات، كما لو أنه مؤسسة أو جماعة أو أمة من الناس، وصارت الثقافة المنظمة للوعي والسلوك الاجتماعي هي الإطار الرئيسي والفاعل لإنجاح وتنفيذ القوانين والإجراءات والإرشادات التي تضمن السلامة العامة، وتحمي المواطنين والمقيمين والزوار.
لقد عدنا جميعاً، أفراداً وحكومات، مثقفين وسياسيين.. إلى القيمة العليا والأساسية، وهي مهارات الحياة، والتي كانت تشغل الأجيال السابقة، وصرنا في حضارتنا ومجتمعاتنا المعاصرة لا نعيرها اهتماماً، بل لم نعد نتقنها أو نقدر على أدائها بدون مساعدة.
وفي الصحافة ووسائل الإعلام، وهي الواجهة الرئيسية لأفكار واتجاهات الأمم والأفراد، كانت الأحداث العالمية والصراعات والقضايا السياسية الكبرى والخارجية تشغل المساحات الرئيسية والكبرى في الاهتمام والإنفاق، وتجتذب المتخصصين والكتاب والنجوم والقادة السياسيين والاجتماعيين، في حين كانت قضايا الصحة والغذاء والتعليم وأسلوب الحياة والمهارات العامة والأساسية تشغل فيها ركناً منسياً، بل وتتعرض للسخرية والإهمال، مما أضعف كثيرا قدرتنا كأفراد وناشئة على الاعتماد على أنفسنا في الحياة والتعليم والصحة والعمل، وانحسرت أيضاً في المناهج المدرسية والتخصصات الجامعية والمهن والحرف.
تتشكل اليوم حاجة قصوى وملحة للفرد الذي يعتمد على نفسه، ويقدر على أداء المهارات والأعمال التي كان يعتمد فيها على غيره، ويملك الوعي والمعرفة التي تقترب مما كان يعرفه المتخصصون في الصحة والتعليم والغذاء والقوانين والتشريعات.
وكذلك تواجه الحكومات والمؤسسات العامة والمجتمعية تحدياً لم يعد قابلاً للتأجيل، وهو أن تعيد تنظيم وإدارة الموارد العامة في اتجاه ضمان وتأمين صحة الناس وغذائهم وقدرتهم على العمل والتعليم من غير مؤسسات فيزيائية وتنظيمية واضحة ومحددة، ربما يكون ذلك سهلاً وتلقائياً في المستقبل القريب، لكنه اليوم عمل تأسيسي ومعقد ومنقطع عن الماضي.
*كاتب أردني