أبوظبي (الاتحاد)
ظل الإنسان يصرخ طويلا منذ فجر البشرية مطالبا بحرية التعبير والكلام.. وعندما أتيحت الفرصة سهلة يسيرة أمامه ليتحدث كيفما شاء.. امتنع عن الكلام، مفضلا الرموز والإشارات.! مفارقة غريبة جدا فضحتها المنصات الإعلامية الجديدة التي تروج للغة جديدة تشبه الهيروغليفية والمسمارية في اعتمادها على الصور والرسوم.
صارت الآن «الميمز» ورموز «الإيموجي»، شائعة الاستخدام، تغني عن الكلام وتهدد اللغة.. أي لغة وليس العربية فقط. وكأننا عدنا إلى بدايات ظهور الكتابة في عهد الفراعنة والسومريين قبل 5 آلاف عام.
كيف حدث ذلك فجأة.؟ في الحقيقة هو لم يظهر فجأة. فأنت بالتأكيد مثل كثيرين.. لديك مشاعر وأفكار كثيرة.. وليس ثمة حيز كبير لاستيعابها أو تنقصك القدرة أو الوقت للتعبير عنها.. تدريجيا أتاحت لك السوشيال ميديا.. ما لا يحصى من الرموز والصور التعبيرية التي ستعبر عما تريد قوله بالضبط، إن لم يكن أفضل.
لم تعد بحاجة لأن تكتب أنا أحب أو أكره أو أنا مشتاق أو مستاء أو عندي لوعة أو سعيد أو متفائل أو حزين.. إلخ.. كل المشاعر والأفكار تقريباً الآن جاهزة ومعلبة في شكل صور وإشارات يفهمها الجميع عبر العالم بصرف النظر عن اختلاف لغاتهم المنطوقة.
يوحد ذلك العالم تقريباً، لكنه يسهم بصورة ما في خلخلة الهويات الوطنية عبر هز الأسس القوية للغة. إنه أمر يتجاوز عدم احترام قواعد النحو والصرف. فالأطفال الصغار والمراهقون صاروا بارعين في التعامل مع الميمز أكثر من قدرتهم على فهم واستيعاب قواعد اللغة العربية، بدرجة قد تؤثر في قدراتهم على التعبير عن أنفسهم في الواقع غير الافتراضي. بالتأكيد سيكون لذلك آثار على جوهر الثقافة وربما طرق التفكير.
صحيح هي طريقة ماكرة في التعبير لتجاوز المحاذير في بعض الأحيان.. لكن أعراضها الجانبية كثيرة. فلا أحد يعرف حتى الآن كيف سيؤثر مثلا سقف عدد الكلمات في كل تغريدة عبر تويتر على طبيعة استخدامنا للغة. ففي البدء كانت 140 حرفاً ثم صارت 240 حرفاً.
باختصار، كان كثيرون يشعرون بالقلق على مستقبل اللغة العربية بسبب اعتماد الأجيال الجديدة على اللغة الإنجليزية ، أو نتيجة الفجوة بين اللغة الفصحى واللهجات العامية.. لكن الخطر الحقيقي الآن ربما يكمن في الاعتماد المتزايد على الرموز والإشارات بما تنطوي عليه من خفة ومرح وجاذبية، حيث تزداد الفجوة بين اللغة الأصلية والعامية و«الافتراضية».
والواقع أن الأمر لا يتعلق فقط باللغة العربية.. بل بكل لغة في العالم. كانت شركة سامسونج قد أجرت مؤخراً استطلاعا للرأي بين 2000 من أولياء الأمور، قال 86 في المئة منهم انهم يشعرون بأن أبناءهم يتحدثون لغة مختلفة تماماً. إذن فالفجوة عالمية تتزايد حدتها لأن التكنولوجيا الحديثة جعلت أعدادا هائلة من الناس مضطرين للكتابة يومياً بصورة لم تكن معهودة من قبل، ومن ثم فهم يختارون أيسر الطرق للتعبير أو الترفيه عن أنفسهم.
وليس أدل على خطورة الظاهرة الجديدة، من الضجة الكبرى التي شهدتها عاصمة عربية مؤخرا عندما استقبلت أحد الشخصيات الشهيرة جدا في عالم «الميمز».. فالشعبية الكبيرة للرجل - الرمز، والاحتفاء الكاسح به وبتحركاته، يكشف كيف يختلط الواقع بالافتراضي والحقيقي بالخيالي، بحيث يصعب أحيانا على المرء التفرقة بينهما. وهو ما يؤكد أننا مقبلين على عالم جديد يتجاوز حتى حدود الميتافيرس الحقيقية أو المتخيلة.