السبت 14 ديسمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: وشاية العصافير

د. عبدالله الغذامي
7 ديسمبر 2024 00:59

(منديلي الأسود على وجهي البريء 
كل العصافير تخيفني.. فأخفيني عنها 
كانت المعلمة المفضلة لدي في الصف الرابع الابتدائي
تحذرنا يومياً بنبرة العارف بكل شيء 
من التي تكشف وجهها لما تطلع من المدرسة..؟
العصفورة تعلمني بكل شيء)
هذا نص غردت به ريم الجوفي على منصة (X) عن طفلة في العاشرة من عمرها تقع بين يدي معلمتها المفضلة وبين يدي العصافير، والبنت تحب العصافير، وتأنس بها، وتعي في الوقت ذاته أن العصافير تكشف أسرار البيوت، ولكنها مأمونةُ السريرة، فهي مخلوقات مسالمةٌ ووفية ولا تؤذي أحداً، وفي المقابل فهذه المعلمة هي الأفضل بين المعلمات، وهي الأقرب للقلوب أي أنها مثل العصافير نقاءً وطيبةً، ولكن كل هذه الطمأنينة تتبخر في لحظة واحدة حين نطقت المعلمة بقولها (مَن التي تكشف وجهها حين تخرج من المدرسة، هي التي تخبرني العصافير عنها) هي لحظة غير محسوبة تقلب موازين الطمأنينة، فالعصافير إذن ليست مأمونة، بل تتجسس على البنات الصغيرات وتكشف أسرارهن للمعلمة، والمعلمة تستقبل هذه الأسرار لكي تكشفها على العلن، وستفضح أي بنت تكشف وجهها في السوق، وهذه تجربةٌ مرة تغوص في الوجدان، وتنتظر سنوات لكي تتكشف على منصة عامة ونقرؤها كلنا ونرى فيها وجع تلك الطفلة الصغيرة التي خانتها العصافير، وأرعبتها المعلمة التي كانت المفضلة والمحبوبة من بين كل المعلمات. وتلك هي حكاية الوشاية التي لا تشبه أي وشاية في التاريخ، لأنها تكشف سر الطفولة وبراءة الوجه الفطريّ الذي لم تلفحه الشمس، ولم تخدشه سكاكين المجتمع الذي لا يرحم أي هفوةٍ ترتكبها طفلةٌ صغيرة، على عكس الأطفال الذكور الذين يسفرون عن وجوههم وأسمائهم وأفعالهم، بل ويتصيدون العصافير من فوق النخيل دون رحمة ولا شفقة، ولكن العصافير لا تنتقم إلا من البنات المسالمات اللواتي تحاسبهن المدرسة على مجرد كشف الوجه، بينما الولد الذي يسفك دم العصفور لا يحاسبه أحد، وربما وصفوه بالصياد الماهر. وهاهو النص يسجل ذاكرة الخوف من عصفورة تتجسس على الوجه البريء. والطفلة ليست وحدها المظلومة، بل العصافير كذلك، تلك الكائنات البريئة التي تم تشويه صورتها في ذاكرة الطفلة، كما تشوهت صورة المعلمة الفاضلة، وتحولت البنات أنفسهن في الصف إلى كبسولات مختنقة ومحبوسة في خندق الخوف حتى من أطيب الكائنات، ومن أطيب المعلمات، وهذه الحكاية نموذج لذاكرة الخوف التي تلاحق النساء منذ زمن شهرزاد، ولا حل لها إلا بسرد حكايات الخوف لعلها تكون سبباً للنجاة، كما نجت شهرزاد بسبب مهارتها السردية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©