وشاعرٌ لا تشتهي أن تسمعه
ورد هذا الشطر في تنصيف للشعراء جعلهم أربعة مستويات كما في هذه الأبيات:
الشعراء فاعلمنَّ أربعة
فشاعرٌ يجري ولا يُجرى معه
وشاعرٌ يخوض وسط المعمعة
وشاعرٌ لا تشتهي أن تسمعه
وشاعرٌ لا تستحي أن تصفعه
وإن كان الترتيب مقبولاً في الأول والثاني، لكن الرابع يجب أن يتقدم على الثالث، لأنه الأكثر حيويةً وإن بالمعنى غير الجمالي، فهذا الذي يجعلك تتحرك من جلستك، وتصعد إليه لكي تصفعه هو من صنع اللحظة الشعرية، وحرك المشاعر بأخطر ما يكون التحرك، ولهذا لم نرَ ولم نسمع أبداً عن شاعر حقق هذه الدرجة العنيفة من التفاعلية، ولو حدثت فعلاً لكان منظراً كوميدياً مذهلاً، ولحقق في زمننا هذا أعلى درجات المشاهدة والتعليقات حتى لربما أصبح مادةً في نشرات الأخبار الرئيسة، ولكن المصيبة كلها في الشاعر الذي لا تشتهي أن تسمعه، وهذه لحظة الموت الإبداعي والتذوقي.
وهنا نقف على وظيفة السماع في الشعر، وموقع لحظة الاستماع بما أن الاستماع هو اللحظة الشعرية الحاسمة في حياة أو موت القصيدة، ولقد كان أحمد شوقي يخاف من هذه اللحظة، وهي لحظة رسوب النص بسبب ضعف الإلقاء، وكان يسند مهمة قراءة قصائده في المناسبات لغيره ممن يجيدون الإلقاء الشعري، خاصةً أن منافسه الأثير هو حافظ إبراهيم الذي يتحلى بمهارة الإلقاء اللافت والمؤثر، ولو ارتبطت المقارنة بين الشاعرين على الإلقاء لكان لحافظ الغلبةُ المطلقة، وهذا ما تخوف منه شوقي فأسند الدور لغيره، وكما في قول الزهاوي:
إذا الشِّعرُ لم يَهززكَ عند سَماعِهِ
فليس خَليقاً أن يقالَ له شِعرُ
والبيت هذا يربط بين الشعرية والصوت، فالصوت بحد ذاته هو شعرٌ، وتزين أي قصيدة بسبب الصوت، ولو استعرضنا القصائد التي غنتها أم كلثوم لاكتشفنا أن صوتها منح نجاحات مذهلة ً للشعر المغنى حتى تلك القصائد الضعيفة، حسب معيار الجماليات الشعرية، ولكنها ارتفعت لمستوى القصائد العظيمة، لأن الصوت أحياها ورفعها لمستوى أعلى من مستواها الحق فيما لو قرأناها مكتوبةً وليس مغناة. وهذا ما يجعل الرباعية عن أنواع الشعراء الأربعة تعزز أن أقل الشعراء منزلةً هو من لا تشتهي أن تسمعه، أما الذي لا تستحي أن تصفعه فهذا صنع للشعر يوماً بهياً يجعل القاعة تضج بلحظة الانفعال بأعلى درجاته، وتصنع للشعر يوماً مدوياً ودرامياً يستحقه أي مهرجان شعري.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض