الأحد 27 ابريل 2025 أبوظبي الإمارات 43 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: جماليات الهزيمة

د. عبدالله الغذامي
10 أغسطس 2024 12:44

في حكاية شعبية عن عنترة بن شداد أن ثوراً هائجاً هجم عليه ففر عنترة من وجه الثور، وحين سخر منه الناس كيف يفر وهو الفارس المبرز قال: وهل يعرف الثور أني عنترة. والحكاية تقال للتمثل بها في تقبل الهزيمة حين تكون أشرف من موت رخيص، وكما قال المتنبي (فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ.. كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ)، غير أن المتنبي نسي بيته هذا، ووقع في ميتة رخيصة على يد قاطع طريق قتل الشعر والمعنى مثلما قتل المتنبي الذي فقد حكمته، ولم يتمثل ثقافة عنترة تلك التي تجمع بين الشجاعة والحكمة، وفي تاريخ الفلسفة فقد رضي سقراط بالموت طلباً للشجاعة، وكان بمقدوره التخلص من الموت حين عرض عليه طلابه الهروب، ورتبوا لذلك بخطة ميسرة تمكنه من الإبقاء على حياته، لكنه رفض الهروب وتجرع السم الذي اختاره ليكون نهايةً لحياته حين خيّره قاضي المحكمة بين أنواع من الميتات كعقوبة للإعدام فاختار السم وقد تشربه طواعية ودون تردد، وبقيت قصته لتتكرر مع أرسطو، حيث لاحت حوله بوادر التربص به لقتله من حكومة أثينا فهرب من وجه طالبيه، وقال لن أسمح لهم بقتل الفلسفة مرتين، وبذلك خالف منهج معلمه الأول، واختار الهزيمة على موت رخيص. وهذان مثالان على خيارات البشر بين المواقف، مع إعادة صياغة معنى الشجاعة التي قال عنها سقراط إنها وسط بين فضيلتين، بين التهور والجبن، ولكنه حين الامتحان لم يحسن فرز المعاني، غير أن حفيده الفلسفي لم يفوت فرصة منح الشجاعة معنى الدهاء الاستراتيجي بين إقدام قاتل ونجاة نافعة معنوياً، حيث جعل النجاة سبباً لبقاء الفلسفة وديمومة العمل النافع واختار الهزيمة الحكيمة على الشجاعة المتهورة، وتمثل مقولة أستاذه، في حين فرط سقراط في منهجيته.
وفي حياتنا نمر بأمور كثيرة تضعنا في امتحان مع معانينا، وكل امتحان يعطي إجابةً تسمو حسب سمو معناها والقيمة التي تضاف لمعنى الحياة وإيجابية السلوك، وأبرزها حكمة الحوار والمواجهة التي تختبر سياسياً واقتصادياً بين القبول بخسارة وقتية مقابل مكسب بعيد التناول ولا يُنال إلا بحكمة تتغلب على إغراء اللحظة، وفي كثير من أمور البشر نرى هزائمَ صغاراً تقضي على عقول كبيرة بسبب سلطة اللحظة، أو لنقل نرى معركةً مع ثور هائج أكثر مما نرى الحكمة تلك التي رآها عنترة ولم يفرط بها، ومضت الحكاية الشعبية ترددها وتوحي بدرسها، لولا أن العقول تغيب عن حكمتها في كثير من أحوال البشر فيبارزون الثور ناسين أنه ثور، وينتهون نهايات غير حكيمة.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض