د. نزار قبيلات *
للشعراء وحدهم القدرة على العودة إلى مستند الماضي والنبش في ما حدث وما قيل، فالشعر، ومنذ محاولات تمثّله الأولى عَدّه النقاد حالةَ تقمص تقبض على لحظات انقياد كانت منضوية تحت سيف سلطة الزمان والمكان الواقعيين، والشعر إزاء ذلك ديناميكية آلية تعمل على مدّ أشرعة الكلمات والألفاظ والمعاني أينما أراد الشاعر لها، فالشاعر لا يُخفي ما يودّ قوله وإن بُني على الكثير من ملابسات البلاغة وأغلفة المواربة اللفظية وفنونها، لذا فما لم يقل سابقاً يحق له أن يُقال من جديد، ولكن على بساط الشعر الذي منح الشاعر الإذن لأن يقول ما فاته قولُه، أو ما سكت عن قولِه أو غَفِل عنه، فجاء عنوان ديوان الأكاديمية والأديبة عائشة الشامسي (ما لم تقله عائشة)، صريحاً مكاشفاً غير آبه لسلطة القول اليومي والعادي والمتداول التي تمسك وتتحكم بما نقوله، فما لم تقله عائشة أجيز له أن يُستدرك الآن، وذلك حين مكّنته عوالم الشعر ليقال دون التباسٍ أو إكراهٍ معهودٍ في حالات التلقي والتواصل التي تعرفها لغتُنا اليومية العادية، والتي لا يمكنها اللّحاق بكل ما يقال وسيقال في عالم المجاز المجاور والموازي.
فقد منح الشعر عائشة صوتاً آخر لتقول وتستدرك ما قد مضى وحُبس في دوائر الزمن الواقعي، بيد أنّ دوائر الزمن الشعري دوائرُ متجددةٌ ومباحة يعرف الشاعر مفاتيح أبوابها ومسالكها ويديرها ببعض المجاز، لتمنح كل ما مضى لباساً جديداً وتهيئة مختلفة، فقد أمعنت الشاعرة في رحلة البحث عمّا لم يقل عبر دروب عوالم شعرية لم تتأتّ قبلاً، فالشعر وحده يعرف كيف يحرّر اللسان، ويتجاوز حدود الزمان والمكان ومقصلة الاعتراف، «فيا شعري الذي ما زلت تهوى جراحاتي وحاجاتي وجوعي» ص:27، ولعلّ الاعتراف الذي يكمن في الشعر لا يعتدّ به في الواقع، نظراً لاختلاف شرطه الموضوعيّ، فالشعراء لهم حرية البوح دون التفات أو انتظار، فما يقولونه لا يحفظه إلا أرشيف روحهم التي تعرف ما الذي تنوي قوله، فالشعر استنادٌ لظلال الذات الشاعرة، والشعر دندنة ذاتية محيّنة يُقرِضنا إياها الشاعر، ونستعيرها منه حتى يصبح قوله قولَنا نحن لا هو.
عتبة العنوان
هذا الديوان فك لغز العنوان الذي يحاول الكثير من الشعراء ربط عقدته بإحكام أمام القرّاء، فهو -أي العنوان- عتبة المؤلف ولعبته بامتياز، وهنا أرادت الشاعرة بسط الطريق إلى جوّانيات عالمها الشعري مبتدئةً بعتبة العنوان، فقد ارتبطت بالعنوان قصائد جاءت بجرسية بديعة أسهمت بها مقاطع شعرية متعلقة بعتبة العنوان. تقول الشاعرة الشامسي في عتبة المدخل:
أغوي القصائد كي تغفو على ورقي
أقدم الجرحَ والقربان والقلقا
لعلّ شيئاً من الأحزان يوقظها
فأجمل الشعر من أوجاعنا انطلق
لو أن ما في حنايا القلب نبصره
لكان من شدة الآلام قد نطقا
قادت الشامسي عقد قصائد الديوان، بدءاً من عتبة العنوان التي وقفت عليها لتطل على قصائد تصف ما وصلت إليه شموس قصائدها التي أطلت أيضاً على جبل حفيت في مدينة العين الإماراتية، فالشاعر ينتمي لقصائده بشكل عضوي ذلك لأنها تسافر معه وتبقى معه، فهي دليله وقرينه «رميت على سني الدهر قافيةً وجفت... ولم تزل تروي وتحترق» ص:20. فعائشة في القصيدة سيرة مغايرة، إذ الشاعر يقدم لنا جمالية خاصة هي خلاصة مكابدة والتباس وتعاضد لغوي وروحي، فيأخذنا في مدارات قصية وإن ظهرت من كينونته الخاصة: هل عيونٌ لا تراني قد تراني في سيوفٍ لا ترى إلا نزالي! ص:23. وللصوت النسوي الشعري كما يقول النّقاد تجربته الشعرية الخاصة، وله أيضاً أسلوب شعري له منظور رؤيوي لا يتشابه مع شعر الرجل، فقد عرفت عائشة ومنذ بداية عمرها الشعري كيف تهدهد قصائدها وأطفالها في تزامن كان فيه للقصيدة دمعها البريء كدمع الطفولة، الشاعر في بوحه وقوله الشعري يمكنه التواري متى شاء فيستعمل ضمير الغائب فيزيد العتمة في وجه مرايا قصائده، تقول الشاعرة في قصيدة على قلق الكلام:
نامت على خد الفراشة طفلةٌ
أخذت توزع للفراش وسائدي
كبرت ولم أصطد سوى خطواتها
تعدو على عمري بخطوٍ بارد
مناجاة خاصة
وحين يكون الشعر مناجاة بين ذات الشاعر والمصير والإيمان بقدر الله، فإن القوافي تمنح الشاعر بساط ريح أوسع، ينقله حيثما أراد وكيف أراد، متقلباً بين تلافيف الحياة وغواية الشعر والمصير، ففي كل قصيدة من هذه القصائد مناجاة خاصة تبين ثلاثية المواجهة تلك: وأصغيت لله... الذي هو عارف ص:58، فالشاعر لا يكسب من قصائده سوى تلك المقدرة المجازية التي أعادت صوغ الحقيقي، وشرعنت المجازي، فالشعر حالة زهد وترفّع تتفادى كل لحظات المدى الواقعي وتبعاته وحمولة شخوصه الثقيلة، فالشاعرة تعرف أن للشعر عيناً وقلماً ويداً حانية، وللقصيد تشكلاً جديداً. تقول الشاعرة:
ولأنني ما كنت أفلت دهشةً
شعرية..إلا وقلبي يعمُقُ.. أعمق
حملت للخطو الطويل هزائمي
وربحت كيف ربحت؟..لا أتعلق
فهذه القراءة المتعجلة لديوان الشاعرة والأكاديمية عائشة الشامسي لا بدّ من القول بأن هذا الديوان ينبئ عن صوت نسوي غير تقليدي، وعن مشاكلة شعرية جديدة ومغايرة تعيد للذاتية الشعرية غير النرجسية براعتها وصوتها الذي نسيناه جراء شعر نسوي وذكوري على السواء كان قد تعالى كثيراً حتى على صاحبه.
* أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية