نوف الموسى (دبي)
أصرت الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، على أن نجري هذا الحوار لـ«الاتحاد الثقافي»، في الاستوديو الفني الخاص بها، في «حي الفهيدي التاريخي» بمدينة دبي، هناك حيث لوحاتها المعلقة على جدران السؤال: أليس حرياً بنا أن نتوسط فضاء تلك اللوحات، بينما نتباحث في الإجابة حول ما يمكن أن يدفع بإنسانيتنا نحو التسامي، بهذا الالتفاف المتأصل في ذاتها، انطلق حديث الفنانة فاطمة لوتاه، وهي ترتب على أكتاف المارين وتدنو من أرواحهم، في محاولة آسرة لإدراك ما يُمكن للمشاعر الإنسانية أن تعيقه في كيان الإنسان ووجوده، مؤمنةً بأننا لا نملك سوى الفن سبيلاً للحب والجمال، به يتحرك الشعور -هكذا وصفته تماماً- بينما هي تشرح ذهولها من بعض ما يحدث في العالم، تقول بشرود خفيف: كل لوحاتي الحالية من دون عناوين، لا تسعفني اللغة لوصف اعتصار قلب طفل صغير، فقد لتوه أمه، وأياً كانت تلك الويلات في تجارب الإنسانية، فإنها تأكيد على اتصالنا، حيث لا يمكننا كبشر أن ننفصل عن بعضنا بعضاً، وفي أحيان كثيرة، ندفع بأرواحنا حتى نستيقظ، ونتذكر أساس وجودنا الفعلي بهذه الحياة العظيمة، والمأساة في عمقها محاولة جادة لإحداث التوازن الكوني، فهل سننجح في ذلك مرة، أتمنى هذا في الحقيقة، فالشعور بالسلام والسكينة لا يضاهيه شعور آخر في العالم أجمع، فهناك في جنة الطمأنينة الكامنة في الروح يكتشف الإنسان نفسه لأول مرة، بوضوح تام، يقوده ذهن صافٍ، ورغبة مُدهشة للقيام بفعل إبداعي، هكذا بلا توقف.
«البورتريه» وفن الأداء
وتمتلك الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، خصوصية الإيقاع المتفرد في الذاكرة الوطنية، فتاة بعمر 17 سنة، تقرر دراسة الفن في أكاديمية بغداد للفنون في عام 1973، وترتحل بعدها لاستكمال بحثها العلمي والفني، إلى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1979، وصولاً إلى الاستقرار بمنزلها في فيرونا بإيطاليا، منذ الثمانينيات وحتى هذه اللحظة. وطوال المسيرة المعرفية والخبرة التراكمية، في الانتقالات الجوهرية بين المدارس الفنية وأساسياتها بين إتقانها لـ«فن البورتريه» وتقديمها لأعمال فنية في مجال «فن الأداء» أو ما يسمى «Performance art»، تقف الفنانة فاطمة لوتاه أمام لوحاتها باقتدار لاستحضار المرأة العربية، وهنا تماماً قالت بحب كبير: «أتريث كثيراً وأنا أرى تحولات المرأة العربية، صوتها الذي عادةً ما كان يأتي كصرخة، قوتها، ضعفها، مخاوفها، تساؤلاتها، التي تتجلى جميعها في أوجه متعددة، هي الإنسانة بكل حالاتها».
معنى اللوحة
وتعترف الفنانة فاطمة لوتاه: كنت في بداية الثمانينيات، أرسم في فضاء -تقصد المجتمع المحلي الفني في بداياته- لا يكاد يوجد به مشاهد، يدرك معنى اللوحة، ودلالاتها المجتمعية وقيمتها الحضارية، وخصوصاً أنه ليس هناك مدرسة فنية معتمدة، كمرجع تاريخي لما ندعوه «الفن في الإمارات» وجاء ذلك بالتوازي مع نشاط رائد الفن المفاهيمي محلياً، الفنان الإماراتي حسن الشريف، والأمر هنا ليس تقليلاً من السمة العامة للحالة الفنية من تلك الفترة الناهضة في المجتمع والمشهد الفني، بل وصف تأريخي للصعوبات والتحديات الأولى حيث إنها واجِبة الذكر والنقاش.
فجوة تكوينية
ووصفت الفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، أن هذه الفجوة التكوينية للفن التشكيلي المحلي، أثرت بشكل ما، على أن تبقى مسألة بناء مجتمع يتذوق الفن من المشاهدين، ويدرك معنى أن يتأمل لوحة فنية، سؤالاً مطروحاً في الوقت الراهن، ومن هنا فقد تبنت في كثير من الأحيان إقامة معارض في الإمارات، سعياً لبناء حالة تكوينية قريبة من مفهوم المنهج، لإعطاء المشاهد لحظة الاحتفاء بإدراك المعنى من قراءة لوحة فنية.
الفضاء والمتلقي
وفي تصريح يعبر عن شجاعة موقفها النقدي من الحراك الفني قالت: أتذكر أننا في عام 2009 قدمنا معرض «صحراء.. وأهل الرمال الحمراء»، حيث حضرت فيه الصحراء بتجريد واسع، إلى جانب شخصيات لعبت دوراً جوهرياً في قيام الاتحاد، وحرصت وقتها على أن أقدم ما يعبر عن المكان، الأرض، الوطن، ليتسنى للمشاهد أن يخلق علاقة أولى مع الأعمال الفنية. كنت أريد مجتمعاً يشاهد، أتذكر كيف كانت تصلني آراء، حول بعض لوحات البورتريه تحديداً، بأني في هذا الأمر أحاول العودة إلى الوراء، وأن الفن يستدعي البحث في أدوات تقدمية، ولكنني متحيرة كيف يطالب بعضهم أحياناً بمرحلة متقدمة وقفزات، دونما إلقاء أي بال لوعي المتلقي والاهتمام بمعنى أن نبني مجتمعاً فنياً، وأعتقد أنه لهذا السبب قد يتجنب بعض المشاهدين عموماً الأعمال بأشكالها التجريدية والتركيبية، لأنه تمت مصادرة حقه في التدرج والتأني والفهم، وبالنسبة لي لا أريد فناً لا يفهمه أهلي ومجتمعي، بل إن كل مساعيّ ستبقى ثابتة حول قدرتي على تأصيل العلاقة الفنية بين اللوحة والفضاء والمتلقي.
التباعد التوثيقي
وذكرت الفنانة فاطمة لوتاه أيضاً نقطة أخرى مهمة، حول مسيرتها الفنية، أن أحد الأسباب الرئيسة في عدم الوعي بمسعاها المتعلق بخلق العلاقة الفنية بين المتلقي واللوحة، هو قصور مناقشة حضورها كفنانة إماراتية، في الدراسات البحثية والكتب الفنية المحلية، وعند سؤالها عن ذلك التباعد التوثيقي لعطائها الفني، أجابت بكل هدوء: في الحقيقة لا أعلم، ولست الشخص المعني بالإجابة، ما أدركه تماماً أن الإمارات بثقافتها ومخزونها وموروثها الاجتماعي والإنساني، حاضرة معي أينما ذهبت واستقريت، وكل تلك اللوحات المحفوفة بجمال نساء الإمارات، رسمتها في إيطاليا، بكل أناقة حضور الفنان في ذاكرة المكان، فهو أمرٌ لا يقاس بموضوعية الواقع، بل بروحانية التواصل الإنساني مع ذاته ووجوده. وبالنسبة لي كفنانة فجلّ ما أفكر فيه هو المساهمة في بيان مفهوم «الفن» باعتباره رحلة الخطوة بخطوة، وأن لكل قطعة فنية أبعاداً فلسفية وتكوينية، يصعب القفز والتجاوز فيها، والتجريد ليس كما قد يعتقد بعض الفنانين أنه مزج للألوان، بل هو حالة تتمثل بخط بداية وخط نهاية، يصل إلى ممارسته الفنان بأريحية تامة بعد مرحلة تأسيس وتكوين طويلة.
طاقة الإبداع
وهناك تحولات مرت بها الفنانة فاطمة لوتاه، قد يتراءى للباحث الاجتماعي والثقافي، أنها تعكس بطريقة ما، التفاعلات المجتمعية للمرأة في الإمارات والعالم العربي، فهي ليست حياة فنانة وكفى، بل مؤشرات ذات دلالة في الكيفية التي عبرت بها المرأة عن نفسها في ثمانينيات القرن الماضي، إنها الروايات البصرية غير المحكية، الممهدة لأدب رفيع سيحمل سياقاته النوعية في السرديات الأدبية والقصيدة العربية.
وقد حولت الفنانة فاطمة لوتاه سردها كحالات إنسانية، وبعد الاستماع إليها يتوصل المتابع إلى أنها وصفٌ بديع لمدى قدرة السؤال عمن أكون، في إحداث وجودية الإبداع؟! وعن ذلك تقول: «1989، العام الذي لا يُنسى، فيه انطلقت رحلتي إلى الهند، وعبرها اكتشفت طريقة تعبير أخرى لأول مرة، بعد أن كنتُ الفنانة التي ترسم بغضب عارم، أصبحت لوحاتي مرهفة وشفافة أكثر، لكم أن تتخيلوا عظمة الاكتشاف وقيمة التوازن الذي يحققه المرء باتصاله المنيع مع ذاته، ولكم أن تسألوا كيف تتأتّى للفنانين قدرة على استقبال تلك الطاقة المهيبة للإبداع، وفي ذات الوقت تقع عليهم مسؤولية استخدامه لمواجهة الألم الإنساني وتحريره، أيّ معادلة صعبة تلك ما بين البناء والهدم، تكاد تكون للبعض ورطة، بينما آخرون يرون أنهم بامتلاكها أصحاب حظٍ عظيم. فالأول يتصل بذاته تارة وينقطع تارة أخرى، أما الثاني فهو محفوف بسكون الرحمة الروحية، فالبصيرة تستدعي النور الداخلي، والظلمة والضجيج ما هما إلا طريق واختبار لنيل شجاعة الحضور والتأثير في السريرة الإنسانية».
الرسم الرقمي والنشر الآني
وفي هذا الصدد، أوضحت الفنانة فاطمة لوتاه، أنه جراء تسارع الأحداث، وتعاقب الأزمات الإنسانية، منذ عام 2011، توطدت علاقتها بالرسم الرقمي والنشر الآني على مواقع التواصل الاجتماعي، تعبيراً عن دعمها للأطفال والأسر، الذين يمثلون المتضرر الأول من تلك الأزمات والمآسي، حيث كانت ترسم في اليوم الواحد ما يقارب الـ6 إلى 7 أعمال رقمية، وتنشرها على «إنستغرام» و«فيسبوك» وغيرها، من بينها معاناة أطفال، تود من خلالها أن يعيش الناس تلك القصص الإنسانية ويدركوا مستوى الألم فيها، مبينة ذلك بقولها: لا يُمكن أن يحدث هذا كله، ولا تتحرك إنسانيتنا، لا أريد أن يتوقف شعور الإنسان بالإنسان، الفن والموسيقى قادران على فعل ذلك، على جعلنا نشعر، وأنه لشخص محظوظ من يمتلك تينك القوتين ويستخدمهما ليقدم تصوراً رفيعاً لحياة كريمة وآمنة يعيشها هؤلاء الأطفال، بحيث تتيح لهم أن يحلموا مجدداً، ويغتنموا الحياة كفرصة مواتية لعيش البهجة والجمال والسلام، فهو حق أصيل لوجودنا ووعينا الإنساني، نستمده من عظمة الكون الواسع والممتد بخيراته، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.
إيصال المشاعر
صورت الفنانة فاطمة لوتاه، المآسي الإنسانية في بعض الأوطان العربية، بهيبة البحث عن فضاء للبوح عبر أعمالها الفنية، ففي عام 2003، فكرت في معرض يدعو إلى السلام، إبان حرب العراق، من خلال أعمال بورتريهات لأشخاص يمثلون مختلف الأديان يصلون للسلام، وتتعمد أن يحضر الوجه في اعتباراته الضرورية فنياً لقدرته بحسب تعبيرها على إيصال المشاعر بقوة، ولم يتوقف الأمر برمته عند تلك المرحلة الفارقة في المنطقة العربية، فالرحلة وسعت رؤيتها الفنية بعدما حصل من اضطرابات في بلدان عربية أخرى لا تزال إلى اللحظة تكابد عناء ويلات الحروب والأزمات الداخلية ما سبب فقدانها لحالة الاستقرار والأمان.