السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

باختين.. ناقد القرن العشرين

ميخائيل باختين
10 أغسطس 2023 01:07

إيهاب الملاح
- 1 -
ربما لم ينل ناقد غربي من الاهتمام والبحث والدراسة، خاصة في فترة ربع القرن الماضية، مثل ما نال الناقد والمنظر الروسي الشهير ميخائيل باختين (1895-1975)، وهذا القول لا ينسحب فقط على المشهد النقدي في أوروبا وأميركا، بل يشمل أيضاً العالم العربي الذي اكتشف باختين ناقداً وفيلسوفاً لغوياً في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. وأتصور أن القيمة الكبرى في الاجتهادات والاستبصارات التي قدمها ميخائيل باختين، تتمثل في تجنب البحث عن نظرية نقدية مغلقة وضيقة الأفق.
لقد مثلت تجربة باختين رداً عمليّاً على ضيق الأفق الذي وَسَمَ نقاد ما سمي بـ«الواقعية الاشتراكية» في الاتحاد السوفييتي السابق وخارجه، باعتبار ما كان. فقد سبح باختين ضد التيار السائد، في وقته، وتصدى لفكرة النظرية المغلقة بكل أشكالها، ودفع ثمناً فادحاً وباهظاً لاجتهاداته تلك، ولتبنيه لهذه الفكرة أو لهذا الموقف. ففي الوقت الذي كانت فيه الشكلية مهيمنة بنظراتها ونظرياتها التي تحيل النص إلى شبكة من العلاقات المغلقة على نفسها، التفت باختين إلى الدلالة الاجتماعية للشكل نفسه، ونبّه إلى ضرورة تحليل المستويات اللغوية المتعددة والمتراكبة داخل النصوص باعتبار أن الأيديولوجيات والمواقف والتصورات كامنة فيها ومستكنّة بداخلها وهي نتاج لها في الوقت ذاته.

- 2 -
وقد شاعت مقولات باختين وأفكاره الأساسية، خاصة ما يتعلق بتصوراته العميقة عن «الكرنفال»، و«تعدد الأصوات» و«الرواية متعددة الأصوات»، والعلاقة بين الزمان والمكان، أو مفهوم «الزمكانية»، وعن اللغة باعتبارها «إيديولوجيا».. إلخ، باعتبارها مقولات صالحة أثبتت حيويتها وكفاءتها لأنْ تستخدم مع كثير من النصوص، والروائية منها بشكل خاص، بل والظواهر الثقافية، ما جعل اسم باختين يتردد أيضاً في ما يعرف الآن بالنقد الثقافي والدراسات الثقافية التي تزدهر بقوة في جامعات العالم.
وتكتسب تجربة باختين جزءاً من قيمتها من كونها اهتمت اهتماماً أصيلاً بالآداب الشعبية أو بالأحرى «الثقافات الشعبية» الدنيا وتأثيرها فيما يسمى بالأدب الرسمي. كما قدَّم باختين للنظرية الثقافية و«التحليل الثقافي» أيضاً حزمة من الثنائيات المزدوجة أو المفاهيمية التي أثبتت فعالياتها ليس في تحليل النصوص الأدبية فقط، وإنما الظواهر الثقافية أيضاً، ومنها:
«البوليفونية والديالوجية» أو الصوت الواحد في مقابل التعددية الصوتية، وهو ما شاع في الترجمات العربية بـ«الحوارية» في مقابل «المونولوجية». ومنها ثنائية «السامي والوضيع» أو «المقدس والمدنس» ومنها كذلك «الكرنفالية» في مقابل الاحتفالات الرسمية أو المكرسة.. إلخ.
وفي هذا المقام، يقول الناقد حسين حمودة: «إن التاريخ لا يظل مغمض العينين طويلاً. فأعمال باختين أعيد اكتشافها في الغرب في فترة متأخرة عن سياق إنتاجها، ثم أعيد اكتشافها في العالم كله فيما بعد. وأتصور أيضاً أنها تمثل إمكانية لربط ‹الأدبية› بسياقها الأكبر بعمق وبابتعاد عن أي شكل من أشكال الانغلاق وضيق الأفق».

- 3 -
حتى وفاته سنة 1975 لم يكن باختين يحظى بمثل ما حظي به بعد ذلك من اهتمام وشهرة. في نقدنا العربي بدأ اسمه يتردد على استحياء ضمن بعض جهود علم اجتماع الأدب في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ولكن الحضور الأكبر والأهم كان في العقدين التاليين، الثمانينيات والتسعينيات، حيث ترجمت أعماله الأساسية إلى العربية، وتمت الاستعانة بمفاهيمه ومصطلحاته الإجرائية في تحليل العديد من النصوص الروائية، بل تعدى ذلك إلى تحليل النصوص والخطابات غير الأدبية أيضاً.
وهكذا سنقرأ تحليلاً رائعاً لتحفة صلاح جاهين «الليلة الكبيرة» من منظور باختين بالبحث عن الكرنفال أو عناصر الاحتفال في هذا الأوبريت الشعبي الرائع. وسنجد مقالات وبحوثاً تحلل تعدد الأصوات في الروايات الحديثة، أو اللغة الحوارية في الرواية، أو الزمكان في نصوص كاتب بعينه (دراسة حسين حمودة على سبيل المثال عن روايات نجيب محفوظ)، بل ستتحول إلى ما يشبه الظاهرة (أصبح عنوان تعدد الأصوات أشبه بالثيمة المكررة في دراسات وكتب بعض الأكاديميين خاصة في المغرب العربي).

- 4 -
ليس لدينا فيما ترجم عن ميخائيل باختين من كتب تناولت سيرته أو عرضت لجانب من حياته سوى كتاب واحد فقط ترجمه إلى العربية الدكتور أنور إبراهيم، الذي صدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، بعنوان «الماس والرماد ميخائيل باختين في حوار مع فيكتور دوفاكين».
ويضم هذا الكتاب الضخم (610 صفحات من القطع الكبير) المحاورات التي دارت بين اثنين من أهم وأبرز ممثلي الفكر الفلسفي والنقدي واللغوي في القرن العشرين «ميخائيل ميخايلوفيتش باختين» (1895-1975) وعالم اللغة والأدب فيكتور ديميترييفتش دوفاكين (1909-1980) الذي كرس السنوات الأخيرة من عمره في وضع مجموعة من الذكريات الشفهية لأبرز معاصريه من العلماء والأدباء والشعراء، سجلها على جهاز تسجيل صوتي خاص به بدءاً من عام 1973.
ويكتسب هذا الكتاب الكبير عن «ميخائيل باختين» أهمية خاصة، فهو في ما أعلم أول كتاب يترجم إلى اللغة العربية، ويتعرض بشيء كثير من التفصيل لسيرة هذا الناقد الفذ، عظيم التأثير على النقد العربي المعاصر، فباختين لم يترك سيرة ذاتية، ولم يكتب مذكراته، أو يدون شيئاً وصل إلينا عن حياته الخاصة بقلمه. ويملأ هذا الكتاب بعض الفراغ في هذه المساحة الخاصة بحياة وسيرة باختين، ويلقي بالضوء على كثير من الجوانب الغامضة في سيرة حياته ومسيرته التأليفية النقدية والفلسفية.
وعبر ست محاورات مطولة، أجراها دوفاكين مع الناقد الذي غُمرت أعماله طويلاً، يرسم لنا باختين نفسه بنفسه، هذه اللوحة الشاملة للطريق الذي سار فيه عبر عصره غريب الأطوار، هائل التحولات، وهذه اللوحة الكلية الشاملة قد لا نجدها في أي مصدر آخر.

- 5 -
يروي كتاب «الماس والرماد»، عبر صفحاته الطوال، ما ظللنا فترة طويلة في عالمنا العربي نجهله عن الناقد والمنظّر الروسي، ويجيب عن أسئلة خاصة في هذا السياق، حيث يفسر ويعلل ويكشف، لماذا تمت إعادة الاعتبار للكتابات التي تم تجاهلها وقمعها نتيجة اعتبارات إيديولوجية، مِثل ما حدث بالضبط مع كتابات ميخائيل باختين التي ظلت مقموعة طوال عصر الستار الحديدي السوفييتي، إلى أن ذاب هذا الجليد الكاسح فاستهلت هذه النصوص «المكتشفة» رحلة قرائية جديدة.
وهكذا اكتشفت كتابات باختين، وأعيدت قراءتها، بفضل جوليا كريستيفا وتودوروف وغيرهما من الذين وجدوا في أفكار باختين عن «الحوارية» و«الكرنفال» و«تعدد الأصوات» ما ينقض التراتب بين الأنواع الأدبية، ويستبدل بحضور الصوت الواحد الحضور «البوليفيني» لتعدد الأصوات، فيحرر النصوص الأدبية من أسر النظرة ذات الاتجاه الواحد، ويفتح الخطاب الأدبي على أفق حيوي من التفاعلات النصية متغايرة الخواص، وذلك على نحو ما حدث في كتابه عن «مشكلات شعرية ديستويفسكي» (1929) و«رابليه وعالمه» ذلك الكتاب الفذ، وغيرهما من النصوص النقدية التي أعيدت قراءتها في سياق صعود البنيوية وما بعدها.
وتتبدى مأساوية «السيرة الباختينية»، وتراجيديتها الأكثر قتامة ووجعاً، باعتبارها سيرة «مفكر وناقد ولغوي تم قمعه وتهميشه لسنوات طوال». وقد كانت سيرة ميخائيل باختين مثالاً دالاً على غيره من ضحايا ممارسة الأصولية الجدانوفية أو الماركسية بلا فارق.
وقد اعتقل باختين سنة 1929 بتهمة النشاط المعادي للنظام السوفييتي، ولكن السبب الحقيقي هو أفكاره الأدبية والنقدية «غير الأصولية»، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات في جزر سولوفستكي، وهي معسكر للموت يقع في أقصى الشمال السوفييتي.
ونتيجة تدخل بعض العقلاء، استبدل بالحكم المميت النفي لست سنوات في كازاخستان. وبعد انتهاء العقوبة، ظل هذا الناقد العظيم منزوياً، يعمل بالتدريس في معهد صغير بمدينة سرنسك في الفترة من 1945 إلى 1961، لا يجرؤ على نشر شيء من أعماله حتى لا يلفت إليه الأنظار أو يتذكره أحد من كهان الأصولية الشيوعية.
وظل باختين في عزلته الاختيارية وهوان حاله إلى أن سقطت الستالينية والجدانوفية، وأعاد الجيل الجديد من الباحثين السوفييت اكتشافه في سعيهم إلى تأسيس «نظرية جمالية» جديدة متحررة من الجدانوفية، فتحلق حوله علماء العلامة السميوطيقيون البنيويون من جامعة تارتو في ما عرف باسم «مدرسة تارتو» ذات الشهرة العالمية في سنوات المد البنيوي. وخرجت أعماله إلى العالم كله بعد أن أَعَدَّ الطبعة الثانية التي صدرت سنة 1963 لكتابه ذائع الصيت «مشكلات الشعرية عند دوستويفسكي» الذي صدرت طبعته الأولى أصلاً سنة اعتقاله 1929.
ومن دون شك، فقد مثلت أطروحات باختين في السنوات التي تلت وفاته، ثورة حقيقية في مجال النظريات النقدية والفلسفات اللغوية والتحليل الاجتماعي للأدب، مما دعا بعضهم من كبار النقاد في العالم إلى اعتباره «ناقد القرن العشرين»، وخاصة مع ما ذكرناه سابقاً من صلاحية مفاهيمه التحليلية للتعامل مع تجارب إبداعية تنتمي إلى مناطق متعددة من هذا العالم. ومن هنا تبدو قراءة هذا الكتاب المهم مغامرة مُغوية للمهتمين بحياة وسيرة باختين، وتتبع السياق الذي أثمر طروحاته النقدية واللغوية معاً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©