هزاع أبوالريش (أبوظبي)
استمرارية الأفكار الإبداعية في مجال الثقافة لا تأتي عادة إلا بالتواصل والتكامل بين المبدع والمتلقي، وحين تقام الأنشطة والأمسيات والندوات والفعاليات الثقافية ويكون حضور الجمهور لها أقل بكثير من التوقعات، فهذا يدعو المشهد الثقافي للتأمل والتساؤل: أين جمهور الإبداع؟ وإلى متى لا يتواجد في الأنشطة الثقافية سوى جمهور محدود فضلاً عن ممثلي الصحافة والإعلام الذين يحضرون عادة لتغطيتها لأسباب مهنية؟ ثمة عدة تساؤلات، في هذا المقام، يتعين طرحها من قبل المعنيين بالشأن الثقافي ومحبي الثقافة بشكل عام، لكون الثقافة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
عزوف محسوس
وفي هذا السياق، قال بدر عبدالكريم الأميري، المدير الإداري بمركز زايد للدراسات والبحوث في نادي تراث الإمارات: من واقع التجربة وعملي في المجال الثقافي منذ قرابة أكثر من ثلاثة عقود أرى أن الجيل السابق، جيل الثمانينيات والتسعينيات وبدايات الألفية، كان يتواجد ويتفاعل مع الأنشطة الثقافية والمحاضرات والأمسيات الشعرية والندوات، وربما قضى حتى جانباً من يومه في أروقة المكان من دون الإعلان عن فعالية ثقافية معينة، حيث كانت الفعاليات الثقافية مصدر جذب للجمهور.. واليوم من وجهة نظري لا يوجد مثل ذلك الإقبال.
مضيفاً: كما أن بعض ما تطرحه مؤسسات ثقافية من برامج قد لا يتناسب مع أذواق قطاعات من الجمهور مما قد يؤدي إلى عزوف كثيرين عن حضور بعض الفعاليات الثقافية.
وتابع الأميري أن غياب بعض الأسماء اللامعة عن سماء الثقافة، التي كانت تستقطب الجمهور بمجرد ما يسمع عن اسم الشاعر أو الفنان أمثال نزار قباني وعبدالرحمن الأبنودي وعبدالرحمن رفيع وغازي القصيبي وغيرهم، ربما كان له دور أيضاً في محدودية الإقبال على بعض الفعاليات الثقافية، حيث إن الجمهور يبحث عادة عن هذه النوعية من الشعراء والأدباء.. وبلاشك، بسبب تنوع مصادر المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تغيرت أذواق قطاعات من الجمهور، ما أدى إلى عدم اكتراث محسوس ببعض الأنشطة الثقافية، حيث إن ثقافة الترفيه أخذت الجانب الأكبر من اهتمام بعضهم، وربما يبحث آخرون أيضاً عن فعاليات وبرامج الثقافة في التلفزيون والسينما والمراكز التجارية ووسائل التواصل الاجتماعي.
منافسة مواقع التواصل
ومن جانبه أشار الكاتب الدكتور شافع النيادي، إلى أنه ربما تكون للمسألة علاقة أيضاً بالتقدم الحضاري، من حضور رقمي ملحوظ جعل كثيرين يتجهون إلى العوالم التقنية سريعة الوصول والعطاء وأخذ المعلومات التي يريدونها منها بكل بساطة ومرونة بمجرد كبسة زر. فكان الاهتمام سابقاً كبيراً بفاعليات الثقافة والإبداع والأنشطة المصاحبة لها لتغذية الفكر والعقل، لأنه ربما كان لها آنذاك مصدر واحد هو المؤتمرات والندوات والمحاضرات، عكس ما نشاهده اليوم من حضور مواقع التواصل الاجتماعي التي توصل الجمهور لأي فكرة يريدها دون عناء الذهاب إلى بعض الفعاليات الثقافية.
كما بات تواصل المتلقي مع المثقف أو المبدع أيسر وأسرع، لأخذ رأيه أو استشارته أي أمر ثقافي. وحين ينشغل الجمهور عن أنشطة الثقافة، فعلينا أن نتمعن في المشهد، لمعرفة ما يشغل الجمهور ويبعده عن الحضور والتفاعل؟
والحال أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت هي أيضاً مصدر معلومة ثقافية حيث يوجد فيها تنوع وأكثر من منبع يستقي منه أفراد الجمهور تفاصيل أفكارهم، ويتزودون ثقافياً من تلك المواقع حسب رغباتهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر ربما ظلت بعض المحاضرات والندوات والأنشطة الثقافية تقليدية ولم تتجدد لتواكب العصر الجديد، عصر التكنولوجيا، وظلت كما كانت من قبل، ما جعل الجمهور يبتعد عن الحضور، ويقتنع بالمتابعة عن بعد من خلال تلك المواقع، لا أكثر.
وأضاف النيادي: للأسف كثير من الأفراد ينظرون إلى هذه الفعاليات الثقافية على أنها مجرد أنشطة، وهي في حقيقة الأمر ركيزة أساسية في تقدم الحياة، فمتى ما غاب الجمهور عن الثقافة والإبداع، تراجع، وصار عرضة للتأثر بعشوائية الطرح، وغوغائية السوشيال ميديا، مبتعداً عن استقاء المعلومات الصحيحة، والأفكار المبنية على أسس ومحتويات معرفية رصينة. وأكد أن الفعاليات والأنشطة، هي ما يرسخ الثقافة ويعزز المعلومات والخبرات والمعرفة، ويجعل الجمهور أمام أفكارٍ واعية، وإبداعات حقيقية، وواضحة المحتوى والمضمون.
الأضواء والنجومية
وبدوره، بيّن الكاتب فيصل باروت، أن هناك أسباباً كثيرة لهذه الظاهرة، ولكن لابد من المنهجية العلمية لمعالجة بعض التحديات الثقافية، وبالتأكيد إذا ما وضعنا الثقافة في هذا الإطار سنجد أن بعض المحاولات تكاد تقتصر على الصورة العامة بمعنى البحث عن الغائب وليس صناعة ذلك الغائب.
لافتاً إلى غياب ثقافة صناعة النجوم الأدبيين الذين بدورهم سيكونون محط طموح لأجيال ناشئة تبحث عن الأضواء والنجومية وتستنير وتستلهم من ألق إبداعهم بحضور ندواتهم، ومحاضراتهم وتجاربهم الأدبية، وفي الأخير عدم إبراز النجوم الحاليين، وفي المحصلة قد تتثاقل خطى قطاعات من الجمهور عن حضور بعض المناسبات الأدبية والثقافية.
وبطبيعة الحال فبريق الأمسيات الأدبية والثقافية قد لا يكفي وحده لاستقطاب الجمهور العريض، وهكذا تبقى القضية الرئيسة تدور في حلقة مغلقة بين أسباب ونتائج غياب الجمهور عن الفعاليات الثقافية. والحل؟! دراسة علمية ومنهجية لصناعة ثقافة يسهل تبنيها من الجمهور المستهدف، ومن ثم توسيع الدائرة بوضع خطة ترويجية لاستقطاب المهتمين، ومن ثم الاهتمام بعرض الفعاليات والمناسبات الثقافية بشكل جذاب لجمهور الثقافة في النهاية.