أثمن مُقتنيات متحف زايد الوطني تجسّد دليلاً على عراقة وقدم الأنشطة البحرية، ويكشف أن الكثير من التاريخ الاقتصادي والثقافي الحديث له جذور عميقة تمتد إلى فجر ما قبل التاريخ، عندما تمّ العثور على لؤلؤة أبوظبي في الموقع الأثري في جزيرة مروح قبالة سواحل أبوظبي عام 2017.
بعد عامين من اكتشافها، وخلال معرض «10 آلاف عام من الرفاهية» في متحف اللوفر أبوظبي، استقطبت هذه الجوهرة اللؤلؤية الوردية أنظار العالم مما جعلها تتصدر الأخبار العالمية. كانت تُعد أقدم لؤلؤة طبيعية يتمّ اكتشافها على الإطلاق، حيث تظهر الطبقات التي تغطي اللؤلؤة بأنها تعود إلى العصر الحجري الحديث في الفترة ما بين 5800-5600 قبل الميلاد. ويعد هذا الاكتشاف دليلاً على وجود مهنة صيد اللؤلؤ والمحار في دولة الإمارات منذ ما يقارب 8 آلاف عام، وهو أحد أقدم الدلائل المكتشفة على صيد اللؤلؤ في العالم.
في العام الذي اكتُشفت فيه لؤلؤة أبوظبي، أنهت «مي المنصوري» دراستها في مجال الدراسات الإماراتية بجامعة زايد في أبوظبي. ولحسن الحظ كانت تعمل في متحف اللوفر أبوظبي حين تمّ عرض اللؤلؤة، وشاركت في الحماسة التي أثارها هذا الاكتشاف آنذاك. لم تكن «المنصوري» تعلم أنّها بعد بضعة سنوات، ستصبح واحدة بين القائمين على رعاية هذه اللؤلؤة الثمينة عندما ستُعرض قريباً بشكلٍ دائم في متحف زايد الوطني.
بينما يستعدّ المتحف الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة لفتح أبوابه أمام الزوار في قلب المنطقة الثقافية في السعديات، سيحتفي متحف زايد الوطني بتاريخ الدولة العریق وثقافتها وقصصها الملهمة منذ العصور القدیمة إلى العصر الحدیث. ویسرد المتحف سيرة الوالد المؤسس، المغفور له الشیخ زاید بن سلطان آل نھیان، طیب لله ثراه. يكرّم متحف زايد الوطني هذا الإرث من خلال تسليط الضوء على الموضوعات التي كانت قريبة من قلب الشيخ زايد.
تشغل «مي المنصوري» منصب أمين متحف معاون في المتحف، وهي تتطلع لمشاركة تاريخ أبوظبي العريق مع الزوار، وقالت في إطار حديثها: «لؤلؤة أبوظبي لها قيمة تاريخية لا تُقدر بثمن، ليس فقط كجوهرة، بل في تقديم نظرة حقيقية على حياة ومعيشة أقدم مجتمعاتنا. وهي تمثّل أيضاً اتصال المنطقة بالبحر، خاصةً من خلال ممارسة الغوص لصيد اللؤلؤ، وهو تقليدٌ يتطلب العمل الجاد والمهارة والصبر».
وقالت المنصوري: «ستُعرض لؤلؤة أبوظبي في صالة عرض «إلى أسلافنا» بالطابق الثاني من متحف زايد الوطني، حيث سيتعرّف الزوار على الأنشطة البشرية القديمة في دولة الإمارات. إلى جانب قطعٍ أخرى، ستُقدم هذه الجوهرة لمحةً عن حياة المجتمعات الصناعية والتجارية في المنطقة قبل آلاف السنين».
وأضافت المنصوري: «ستُجسد قصصهم من خلال العروض التفاعليّة، جنباً إلى جنب مع العروض على جدران صالة العرض، للمساهمة في تعزيز تجربة الزوار». وتضيف: «ستكمّل هذه التقنيات نهج السرد التاريخي التقليدي، مما يوفّر فهماً تفاعلياً أكثر وضوحاً لدور اللؤلؤ في التاريخ البحريّ القديم للمنطقة».
هذه اللؤلؤة هي بالتأكيد ليست أقدم المقتنيات في صالة عرض «إلى أسلافنا». وتعود تلك المكانة إلى «أداة القطع من العصر الحجري القديم» التي تمّ اكتشافها في العين ويعود تاريخها إلى أكثر من 300,000 سنة. يقدّم هذا الأثر القيّم دليلاً على إحدى الهجرات البشرية الأولى إلى دولة الإمارات العربية المتحدة من القارة الأفريقية. لقد انجذب البشر الأوائل نحو الموارد الغنيّة من الأنهار والبحيرات والأراضي الرطبة. وتشرح المنصوري: «كان يُعتقد في الأصل أنّ الهجرة البشرية القديمة حدثت عبر مصر، ولكننا نعلم الآن أنّ الناس أتوا أيضاً من أفريقيا عبر جنوب شبه الجزيرة العربية واتجهوا نحو دولة الإمارات». أمّا بالنسبة لاستخدامها، فقد كانت الفأس أداة متعددة الأغراض: «كانت تُستخدم لاختراق الأشياء، وقطع اللحم وجلد الحيوانات».
بعد ذلك بكثير، ظهرت مجتمعات العصر الحجري الحديث في الإمارات العربية المتحدة. زوّدت هذه المواقع علماء الآثار بالعديد من الرؤى، بما في ذلك التجارة التي شملت الفخاريات، لحم وأنياب الأطوم (بقرة البحر) العاجيّة، وبالطبع اللؤلؤ. وأضافت المنصوري: «لقد كانت اللآلئ كنوزاً في حدّ ذاتها كأحجارٍ كريمة ثمينة، مع وجود أدلّة على دفن الناس في «جبل البحيص» بالشارقة مع لآلئهم الخاصة».
يسلّط المتحف الضّوء أيضاً على أصول صناعة اللؤلؤ في صالة عرض «في سواحلنا»، حيث سيتمّ تعريف الزوار ليس فقط بتفاصيل صناعة اللؤلؤ، بل أيضاً بالأدوات والأشياء اللازمة للحياة اليومية، بالإضافة إلى العمل الفعليّ على متن سفينة الغوص الخاصة بصيد اللؤلؤ.
تقول المنصوري إنّ أكثر الحقائق إثارةً التي تعلّمتها من هذا المعرض، تتعلّق بحياة النساء اللاتي تُركنَ، بينما كان الرجال يبحرون لأشهرٍ في مهمات الغوص عن اللؤلؤ: «مع غياب الرجال، تولّت النساء الأعمال الشاقة، حيث كنّ يعتنين بمحاصيل التمر ويحفرن الآبار وينزلن بأنفسهنّ لتدعيم الجدران. كانت هذه الأعمال خطيرة، حيث يمكن أن تنهار الجدران في أيّ لحظة، لكن النساء كنّ يفعلن كل شيء لضمان استمرار نمط حياتهن».
تمّ جمع هذه المعلومات عن مجتمع الغوص وصيد اللؤلؤ في تسجيل من ثمانينيات القرن الماضي، قام به أحد أفراد عائلة إماراتية تعمل في مجال الغوص وصيد اللؤلؤ، وهو الآن جزءٌ من التاريخ الشفوي للمتحف. تمّ تناقل هذه القصص عبر القرون، مما ساعد في الحفاظ على الهوية الثقافية وفهم تلك الحقبة عبر الأجيال.
يمثّل التاريخ الشفوي جزءاً مهماً من رواية المتحف، حيث يتمّ نقل الروايات التاريخية عبر شاشات الوسائط المتعددة والفيديوهات، ومن خلال المعروضات. تعبّر المنصوري عن شكرها الكبير للعائلات التي ساهمت في هذا الجهد: «نواصل البحث في هذا الجزء من تراثنا من خلال التواصل مع كبار السن وأولئك الذين أُتيحت لهم فرصة سماع القصص من أقاربهم الأكبر سناً. نأمل باستضافة هؤلاء الأشخاص الذين ساعدونا في بناء مجموعتنا».
في الحقيقة، الناس هم جوهر متحف زايد الوطني. إنّهم الأجداد الذين خلقوا تاريخ الإمارات الغني وتركوا أدلّة مثل لؤلؤة أبوظبي للأجيال القادمة، وأولئك مثل الشيخ زايد -طيّب الله ثراه- الذي سُمّي المتحف باسمه، والذين كانوا مصممين على الحفاظ على قصصهم الثقافية حيّة على مرّ الأيام، وتلك الأجيال التي تحمل الأمة نحو المستقبل.
وختمت المنصوري بأن كلّ شيء يتعلّق بالتواصل بين الأجيال، وقالت: «إن إدراج لؤلؤة أبوظبي في متحف زايد الوطني يربط بشكلٍ وثيقٍ بين الإماراتيين اليوم وبين ماضينا. لا تزال قِيمُ أجدادنا البحّارة التي تمثّلت بالمثابرة والقدرة على التكيّف والابتكار حاضرةً في شعبنا اليوم، وكذلك الفخر بالحفاظ على تراثنا في مجتمعٍ يتّجه بسرعةٍ نحو الحداثة».
«مادة إعلانية»